19 تموز

القديس ثيوذور رئيس اساقفة اديسا

 كان تلميذا رهيبا وفتى حالما بدا عاجزا ان يركز على أي شيء ، وفي صبيحة احدى الايام بينما كان الاسقف المحلي يقيم القداس الالهي ، اختبأ الصبي تحت المائدة المقدسة ، وراح يغط في نوم عميق .

كان في السابعة او الثامنة من العمر في ذلك الحين ( 790 ب م ) بحسب معظم مؤرخي الحقبة ، الا ان حياته تبدّلت الى الابد بعد حلم رهيب وغامض .

عندما غط الصبي في نوم عميق تحت المائدة المقدسة ، في ذلك الصباح الطويل ، راح يرى صبيا يسير باتجاهه ، لقد تراقص النور وسطع على رأس الضيف الجديد ، وعندما حدّق ثيودور الشاب جيدا ، رأى ان الزائر في الحلم كان يحمل بيده هدية .

كانت الهدية كناية عن عسل طازج … وكانت بين الاثنين خلوة بهية يُقصد منها تشديد الفتى الذي كان يغط في نوم عميق تحت المائدة المقدسة ، قبل ثيودور البركة بسرور ، الا انه فزع عندما تبسّم الصبي بغتة وراح يكلمه بصوت عال .

ولئن كان خروج الكلمات صعبا في البداية ، الا ان الفتى الحالم كان يفهمها ، والصبي الذي كان قد احضر العسل ، كان يطلب من ثيوذور ان يصبح راهبا ، ولكن لماذا اذهله الطلب ؟ لقد انذهل عندما رأى ان الصبي كان يمسك شيئا خشبيا بيده ، وما ان اخذ هذه الاداة المقدسة من الصبي المستنير ، حتى ادرك ، انها تستخدم لتحديد اساقفة الكنيسة المقدسة ، فاضطرب  ، وراح يهز رأسه ، لقد اراده هذا الصبي ان يصبح راهبا ، ولكن هل قدّر له ان يصبح اسقفا فيما بعد ؟

نعم كان ، وبالنسبة للراهب العظيم والاسقف القديس ثيودور ، فان تلك اللحظة الملفتة تحت المائدة المقدسة سوف توفر الفصل الاول من حياة نسكية متشددة ومكرسة بالكلية لمجد الله .

ولد في مدينة من اعمال ما بين النهرين تدعى اوديسا ( اليوم جزء من تركيا الحديثة ) كان ثيودور الصبي الذي ينتظره والداه التقيان سمعان ومريم بعد طول انتظار .

ولسنوات عديدة فان مواطني المدينة القديمة كانا يتوقان الى ولد ابن ، وكانت المعجزة ، وبعد رؤية مذهلة فيها اعلن القديس بولس انه سيكون لهما ولد عطية الله : ثيودور ، فرح الزوجان بقدوم الصبي سنة 785 .

كان والدا ثيودور يرفعان الشكر والعرفان لله بدون انقطاع على ما اعطاهما ، الا انهما كانا مع ذلك يخشيان اداء الصبي ، الضعيف دراسيا ، وكأغلب الاهل ، قام سمعان ومريم بكل ما بوسعهما لمساعدة ابنهما في دروسه ، وذهل الاساتذة في الشهور التالية ، وذلك لأن اداء الصبي راح يتحسن باطراد حتى انه اصبح الاول في صفه ، وكان يبدع في النحو والصرف ، في الفلسفة والخطابة .

وفي الظاهر فان الحافز عند الشاب تأثر جدا بظهور حامل العسل ، فراح يعلن انه يريد ان يصبح راهبا قديسا يعيش في الارض المقدسة ، ولم يكن الامر نزوة غبية طائشة ، فعندما رقد والداه بعد شهور ، قام ثيودور ابن الثامن عشر ربيعا وخطا خطوتين من شأنهما ان يغيّرا حياته على نحو جذري ، 1- وزع كل ما ورثه عن والديه ، على الفقراء والمحتاجين ، 2- قام بعد ذلك ووجه نظره شطر اورشليم راغبا ان يزور الاماكن المقدسة وكل ما يحيط بها حسب رغبة قلبه .

وبعد ان امضى اياما عدة في صلاة حارة في اماكن بالغة الاهمية كالجلجلة حيث جرى صلب يسوع المسيح ، والجثمانية حيث احتمل الرب الاما عظيمة في البستان ، استجمع ثيودور قواه وقام بزيارة الى دير القديس سابا المتقدس الواقع على مقربة من اورشليم حيث كان يجاهد عدد من الرهبان المتقدمين روحيا .

واثناء زيارته الطويلة ، توسل ثيودور الى رئيس دير القديس سابا الاب القديس يوحنا ان يسمح له بالدخول الى الدير  ولما كان له ما اراد ، راح يبكي من شدة الفرح ، وفي السنوات التالية ، اصبح شخصية اسطورية ، واعتبر نسكه ونكرانه لذاته مثالا للرهبان الطامحين ، كان يعيش على القليل من الخبز والماء ، وينام لساعتين في النهار فقط ، وقد اثر ان يقضي ليله واقفا للصلاة بحرارة .

وبعد اثنتي عشرة سنة امضاها على هذا المنوال ، صعق لما بلغه نبأ رقاد المعلم العظيم والمرشد ورئيس الدير يوحنا وكانت ردة فعله طبيعية ، لأن اعظم صداقة كانت تقوم بينه وبين الاب يوحنا ، وبعد هذه العلاقة العميقة مع هذا الرجل الذي تعلم منه الكثير ، قرر ان يمتحن نفسه كي يحيا حياة متشددة وقاسية جدا كناسك في البرية ، وفي الاربع والعشرين سنة التالية ، راح يطوف براري اليهودية العظيمة ، لايأكل الا البلح والاعشاب كل يوم .

وطوال هذه السنوات ، ما كان ثيودور ليمتلك الا جبة بالية ، وعندما كان الرهبان يتصلون به للاسترشاد كان يهرب منهم بتواضع مقتنعا ان ليس عنده ما يقوله لهم ، وفي احدى المناسبات ، وعندما قبل ان يرشد احد الراغبين ان ينخرطوا في الرهبنة ( ابن اخته المدعو مخائيل من عالم اديسا القديم ، وكان قد قصده للاسترشاد ) ، حزن جدا ، عندما علم بعد حين باستشهاده على يدي ملك وملكة وثنيين .

لقد اهتز جدا بعد موت ميخائيل ولم يعد يقبل اية مسؤولية روحية من أي نوع ، لذا فقد ذعر عندما قرر بطريرك انطاكية وبعض اعوانه وصحبه ، بعد سنوات ، ان ثيودور هو المرشح الاوفر حظا للسدة الاسقفية على اديسا ، ولئن كان فسّر المرة تلو الاخرى انه انسان بسيط آثر ان يطوف وحيدا في برية فلسطين ، الا ان البطريرك اصرّ ان ثيودور ليس امامه أي خيار سوى الطاعة .

وفي السنوات المتبقية من حياته في الجهاد ، نجا ثيودور من مخاطر روحية جمة ، وفي احدى المناسبات وبعد ان دعي الى فراش الملك الفارسي مؤاويد الذي كان يحكم بابل ( اليوم هي بغداد ) ، شفاه من سرطان مميت وهداه الى الايمان الحقيقي بيسوع المسيح ، ومع الاسف فالاهتداء هذا انتهى بحزن عميق ، فبعد ان اعطي الملك اسم يوحنا ، قضى شهيدا على ايدي مواطنيه .

ومن جديد ، دفع ثيودور ثمنا باهظا ، لأنه ترك الحياة الحلوة في البرية ، وحاول ان يساعد انسانا كي يهتدي على نحو يغير سيرته وحياته ، الا ان جهادات ثيودور لم تنته بعد ، في ثلاث مناسبات ، طالبه رئيس الاساقفة ان يحارب ضد هرطقات خطيرة ( النسطورية ، المانوية ، السيفريانية ) ، وكل جهاداته التي لا تنتهي كللت بالنجاح ، وبعد سنوات من الجهاد المضني ارتاح ليقينه ان هذه الهرطقات قد هزمت وان ايمان الكنيسة سيقى على نقاوته في المستقبل ، وعندما رقد الرجل الجليل عن عمر 65 سنة في اديسا في سنة الرب 848 ، بكاه سكان المدينة كخادم لا يكل للفادي يسوع المسيح .

وفي النهاية فان حلم فتوته للطفل وللعسل ، ارشده حسنا على الطريق الطويل الى الخلاص الابدي ، واليوم ، وبعد مرور اكثر من الف سنة على جهاداته من اجل اطاعة مشيئة الاب السماوي ، ما يزال القديس ثيودور مكرما كنموذج ومثال للوفاء لله القدير .