القديس أثناسيوس الكبير

هو أسقف الإسكندريّة طيلة خمسة وأربعين عاماً، قضى منها سبعة عشر عاماً في المنفى، موّزعة على خمسة منافٍ متفاوتة الطول. وُلد في الإسكندريّة عام 295 من أبوين مسيحيّين ومن أصل يونانيّ، وسمّي باسم يونانيّ “أثناسيوس” الذي يعني بالعربيّة “خالد”. حصّل أثناسيوس ثقافة عالية دينيّة وعالميّة، فكتاباته تدلّ على معرفة عميقة بالكتاب المقدّس واطّلاع واسع على الثقافة اليونانيّة، ولا سيّما أفلاطون الفيلسوف، كما كان خطيباً مفوّهاً. تعيّد له الكنيسة في 18/ كانون الثاني من كل عام.

وضع أثناسيوس مؤلّفات دفاعيّة وعقائديّة وتاريخيّة وروحيّة. أوّل كتبه هو “الردّ على الوثنيّين وفي تجسّد الكلمة” وكان لأثناسيوس حين ألّفه ثلاثة وعشرين عاماً. ويتضمّن هذا الكتاب قسمين:

القسم الأوّل: هو دفاع عن المسيحيّة بإزاء الوثنيّين، يثبت فيه الكاتب صحّة التوحيد الإلهيّ وبطلان عبادة الأصنام وتعدّد الآلهة.

والقسم الثاني: يوضح الإيمان بالتجسّد والهدف منه: لقد تجسّد كلمة الله ليؤلّه الإنسان ويوحّده بالله ويمنحه الحياة الدائمة.

ومن أقواله في هذا الكتاب: “على الصليب وحده يموت الإنسان وذراعاه ممدودتان، وكان من الموافق أن يقاسي الربّ هذا الموت ويبسط يديه: بالواحدة يشدّ إليه الشعب القديم، اليهود، وبالثانية يشدّ الأمم، ويجمع الفريقين فيه”.

إنّ العبارة الواردة أعلاه “لقد تجسّد كلمةُ الله ليؤلّه الإنسان” توجز لاهوت القدّيس أثناسيوس كلّه. فأثناسيوس المدافع عـن إيمان الكنيسة في وجه هرطقة الآريوسيّين الذيـن أنكروا ألـوهة السيّد المسيح، يشدّد في رسائله إلى الأساقفة والمؤمنين على أهمّيّة الإيمان بألوهة المسيح لنيل الخلاص. فلـو لم يكن المسيح إلهًا لما كان بمقـدوره أن يخلّصنا من الموت، ولما كنّا حصلنا على الحياة الأبديّة.

فيقول في إحدى خطاباته: “إذا جعلتم من الابن خليقةً، يبقى الإنسان في الموت لعدم اتّحاده بالله..لا يمكن لأيّ خليقة البتّة أن تمنح الخلاص للخليقة، إذ إنّها هي نفسها بحاجة إلى الخلاص”.

وفي رسالة إلى أساقفة مصر وليبيا (وقد كان ثمّة مسيحيّون في ليبيا) يحثّهم على الحفاظ على إيمانهم بألوهة الربّ يسوع مستشهـدًا بالإنجيل: “ماذا يفعلون بالنصوص التي يقول فيها الربّ نفسه: أنا والآب واحد (يوحنّا 10، 30)، مَن رآني فقد رأى الآب (يوحنّا 14، 9)، أو بقول بولس الرسول: إنّه ضياء مجده وصورة جـوهـره (الرسالة إلى العبرانيّين 1،1)؟ مَـن لا يرى أنّ الضياء غير منفصل عن النور، وأنّه يشترك في طبيعته ولا يمكن أن يُفصل عنه؟”.

في السياق عينه، نرى أثناسيوس يكتب مقالة عن التجسّد للردّ على الآريوسيّين يؤكّد فيها ألوهة الابن وألوهة الروح القدس أيضًا، فيقول: “صار ابن الله ابنَ البشر لكي يصير أبناءُ البشر، أبناءُ آدم، أبناءَ الله (…) إنّه ابن الله بالطبيعة ونحن أبناء الله بالنعمة”. ويقول في مكان آخر: “لقد صار الكلمة جسدًا لنستطيع نحن أن ننال الروح القدس”.

وفي رسالة أخرى وجّهها إلى سيرابيون أسقف تحمس (في مصر) في موضوع ألوهة الروح القدس، يتساءل:

“لماذا يحصون مع الخلائق روح الثالوث القدّوس؟..إنّ في ذلك تقسيمًا للثالوث وهدمًا له”.

عهد أثناسيوس كان عهد الدفاع عن ألوهة السيّد المسيح، ولم يكن موضوع ألوهة الروح القدس مطروحًا بقوّة. بعد وفاة أثناسيوس بأعوام قليلة دافعت الكنيسة بلسان بعض آبائها عن ألوهة الروح القدس في وجه مَن أنكرها، مستعينة بما قاله قدّيسنا في هذا الصدد. إنّ اسم أثناسيوس هو، بلا شكّ، مرادف للثبات والإيمان المستقيم.

ومن أروع ما كتب أثناسيوس، خارج إطار الدفاعات اللاهوتيّة، وبلا منازع، سيرة القدّيس أنطونيوس الكبير أبي الرهبان ومؤسّس الرهبنة (تعيّد له الكنيسة في 17 كانون الثاني)، وهي وثيقة رهبانيّة بالغة الأهمّيّة. يرينا أثناسيوس في هذه السيرة أنّ حياة أنطونيوس هي حياة زهد وتقشّف وابتعاد عن الأهواء والشهوات، يمضيها صاحبها في الصلاة المتّصلة والتأمل الدائم بالكتاب المقدّس والعمل اليدويّ. وما صلاة أنطونيوس وصراعه ضدّ الشيطان وإغراءاته إلاّ رمز للجهاد ولمشاركة المسيح الذي قاده الروح إلى البرّيّة للتغلّب على الشيطان. يقول أثناسيوس في سيرة أنطونيوس:

“الفضيلة ليست بعيدة عنّا، إنّها فينا، وهي سهلة المنال بشرط أن نريد. فقد قال الربّ: ملكوت السموات في داخلكم”.

إنّ مَن يقرأ سيرة أنطونيوس لا بدّ أن يقول مع أثناسيوس: “إنّ مجرد تذكّري أنطونيوس يجلب لي فائدة كبرى” (يجدها القارئ في منشورات النُّور).

ولأثناسيوس كتابات عدّة في البتوليّة يولي فيها الأهمّيّة لبتوليّة الفكر والسلوك، ذلك أنّ العذريّة الجسديّة من دون نقاء الفكر ومن دون الصلاة لا معنى لها، فيقول: “يجب حفظ خدر العرس نقيًّا من كلّ فكر رديء وهرطوقيّ (…) يجب أن تُقِمْنَ فيه كلّ يوم للتحدّث مع خطيبكنّ، أعني الكلمة، كلمة الله، ولا ينبغي أن تُلقِيْنَ بعيدًا عنكنّ كلامه. أمّا كلامكنّ معه فهو الصلاة”.

يضيق بنا المجال، في هذه المقالة، لعرض كلّ كنوز أثناسيوس الذي اعتبرته الكنيسة، عن حقّ، كبيراً، لأنّه من عظماء معلّمي الكنيسة على مرّ تاريخها. ولنا في ما قاله للوثنيّين في زمانه، وزمانُنا لا يخلو من وثنيّين جدد يلبسون أقنعة المسيحيّة وغيرها من الديانات، درسٌ قد نتّعظ به:

“أنت الذي يحبّ يسوع المسيح، يجب أن تعرف عمله معرفة كاملة، ألستَ مقتنعًا من ذلك؟..لا شيء أثمن من معرفة المسيح والإيمان به”.

http://www.skandarassad.com/temp/sent_16.htm