كونوا قديسين

تغنّى الخدمة الإلهية وصلوات الكنيسة الأرثوذكسية بقداسة الله. فهو “القدّوس الواحد” الذي تسجد له كل ركبة في كل زمان ومكان. وتساعدنا الكتب المقدسة على اكتشاف معنى هذه القداسة وسطوعها، وذلك من خلال تدخلات الله في التاريخ في الخلق والخلاص، وتاليا مما تعرضه من متطلبات تفترض من الإنسان أن يطيعها. ولعل أحد أهم أوجه هذه القداسة هو محبّة الله للإنسان، وذلك أن الله، الذي لا يستهويه دمار شعبه، يحبّ الناس جميعا ويرغب بمحبتهم. وهذه المحبة- التي يطلبها الله- تنتظر أن يبتعد الإنسان عن الخطيئة التي تدمّره، ويقبل قداسة

الله، أي الاتحاد به. وهذا ما تعنيه الوصيّة التي تضيء صفحات الكتاب المقدس، وهي: “كونوا قديسين لأني أنا قدوس” ( أحبار 11: 44-45، 19: 2؛ 1 بطرس 1: 15 ). وذلك أنه ليس من قداسة خارجة عن الله، فالقديس، حسب التراث الكتابي، ليس بطلا بالمعنى الذي يطلَق على بعض رجال التاريخ، وإنما هو ذاك الذي أدرك أن الله أعظم من العالم وقوّته، وأنه أحبه واختاره من أجل حبّه وخدمته. وزيادة في التوضيح أقول، على سبيل المثال، إن شعب العهد القديم مقدّس، لا لأنه مختلف عن غيره من الشعوب، وإنما لأن الله اختاره وعاهده ( خروج 19: 5-6). وهذا عينه ينطبق على كل من رضي دعوة الله بصدق.

والواقع أن الله يطلب قلب الإنسان ليسكنه أبداً ( يا بني أعطني قلبك ). لا يحب الله الخطيئة التي تعطّل البرّ، ولا تبريرها، وعظمته( قداسته) أنه، في كل حال، لا يحابي الوجوه، أي أنه لا يميز بين وجه (مطيع) وآخر ( رافض). وهذا، من جهة، لا يعني أن الناس مضطرون إلى أن يقبلوا محبة الله، فهذا يناقض صورته في الإنسان (الحرية)، ولكنه، من جهة ثانية، لا يعني مطلقاً أن الله يبقى مكتَّف اليدين تجاه قسوة قلوب “أبنائه”، فمَن خَلَقَ العالمَ وخلّصَه بمجيء ابنه الوحيد وموته وقيامته باقٍ خالقا ومخلِّصا دائما. يقول المرنّم: “قلباً نقيا اخلُقْ فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّدْ في أحشائي” ( مزمور 50: 12)، وذلك أن الخلق والخلاص، في المفهوم المسيحي، عمل يقوم به الله دائما، ولا يبطله موقف بعض الذين يعاندون الحقّ.

ساقني إلى هذا الكلام حديث جرى بيني وبين صديق يحاول أن ينتهج الالتزام في الكنيسة طريقا إلى الله. ذلك أنه قال لي إن بعض معارفه يهزأون بمن يشتركون في الصلوات الكنسية ويترجمون مقتضياتها سلوكا ( وتاليا به)، ويتّهمونهم أنهم يلتزمون خوفا من الله لا حبا به، ويزيدون في السوء، بقولهم أن الالتزام المسيحي يقود الناس إلى “خفّة العقل”. وبحرقة كبيرة، سأل: بماذا نُجيب مثل هؤلاء الناس؟ وشعرت أن سؤاله يعني: كيف نساعدهم؟ أقول هذا، وأنا لا أقصد أن أُسقط ما أريد على لسان هذا الصديق، وإنما لأني مدرك تماما أن المسيحيين الحقيقيين لا تزعجهم انتقادات الناس، ونما بُعدهم عن الحق. ذلك إنهم (المسيحيين) يأتون من محبة يسوع لا من انفعالات غير نافعة، ولذلك هم يريدون أن يكون الجميع أوفياء لمن بذل دمه حبّا بالعالم.

واستطراداً أقول إن الكثيرين – اليوم – تعيق وعيّهم قداسةَ الله، وكونها محكّ الالتزام، أمور عدّة. فترى مثلا أن ثمة مَن ينظر إلى القدّيسسن نظرة غربية ومنحرفة، فهم (القديسون)، عند البعض، أناس أُعدّوا قبلا لهذا “الدور”، وليسوا أشخاصا اختاروا الله بحرية حبيباً وسيداً وحيداً على القلب. والبعض الآخر، في السياق عينه، يؤلّهون القديسين (وينسون الله)…. وآخرون يوظّفون القديسين: واحد يشفي العقر، وآخر يقهر الأعداء، وآخر يساعد مَن أضاعوا أشياء هامة….وفي كل حال ما يسيء إلى القداسة وصيّةً أن عموم المسيحيين لا يرون أنها نداء الله إليهم في الزمان والمدى.

ما من شك في أن رافضي القداسة التي ينتهجها البعض في التزام طاهر، وعلاماتها في التاريخ، لا يجهلون حقّها. مشكلتهم أنهم يعرفون فيتهربون ويبررون ويرفقون. ولا أقول هذا بغية إدانة أحد، وإنما لأني أثق بأن الله وضع نوره في قلب جميع الناس، وتركهم أحراراً لأن يقبلوه أو يرفضوه (قول أحد القديسين: أنا أحب الله لأنه ترك لي الحرية لأن أقبله أو أرفضه). يقول بولس في رسالته الأولى إلى كنيسة كورنثوس: “نحن جهّال من أجل المسيح” (4: 10)، ولعل هذا القول يعني، في ما يعنيه، في هذا السياق، أن تهمة الجهل التي يطلقها البعض على مختاري الله، يقبلها بفرح محبّو يسوع الذي هو “حكمة الله وقوّته”. والصابرون على الإهانة ينالون التهيئة، ذلك أنهم يسمعون الله يقول لهم في قلوبهم: “طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كل كذب من أجلي. افرحوا وابتهجوا: إن أجركم في السموات عظيم” (متى 5: 12 – 13). فالذين ينتقدون أَحبّة الله يدينون أنفسهم. والفاهمون لا يُسكرهم أن استهزاء المستهزئين يعطيهم التطويب، وإنما فهمهم ذاته يقودهم إلى أن يَرْثوا لمثل هؤلاء، ويحاولوا أن يخلّصوهم “منتشلين إياهم من النار”، لئلا يقعوا في يدي من يخاف يومه كلُّ بشر.

إن من عرف أن غاية الحياة، في هذه الأرض، هي القداسة “التي بغيرها لا يرى الربَّ أحد” (عبرانيين 12: 14)، كان سلام الله عليه، أما “المتردّدون” فليخافوا من ضعف بصيرتهم، علّهم يخشعون أمام صبر الله عليهم ومحبته إياهم، ويتوبون، لأن الله قادر – إن غيّروا موقفهم – على أن يجعلهم أوّلين في القداسة والمحبة التي هي وحدها حقيقة الوجود.

عن نشرة رعيتي 1999