القديسة مريم المصرية

maryegypt_s.jpg

هذا الأحد وهو الأخير من الصوم نصل فيه الى قمة الحديث عن التوبة، فيما نحن ندنو من الأسبوع العظيم ينتصب أمامنا وجه هذه المرأة الرائعة التي انتقلت من قاع خطاياها إلى ذروة مجدها. تعاطت الفحشاء منذ الثانية عشرة حبا بالفحشاء وليس طمعا بالمال فيما كانت تتقاضاه. مولودة مسيحية في الريف المصري ولكنها انتهت إلى الإسكندرية المدينة المترفة الواسعة حيث كان لها ان تنطلق إلى ملذاتها.

يوما وجدت جمهورا يتراكض إلى البحر وفهمت انه مسافر إلى القدس لإحياء عيد رفع الصليب فخطر لها ان تركب البحر ولا تملك أجرة السفينة. هل كان حجها إلى القدس من باب الفضول ام ان شيئا من مسيحيتها استفاق فيها؟ هنا قررت ان تُسلم نفسها لمن شاء من الركاب لتدفع ثمن الرحلة.

بلغت اورشليم ولكن قوة خفية حالت دون دخولها كنيسة القيامة. تقول سيرتها التي كتبها القديس صفرونيوس بطريرك اورشليم انها رأت من بعد ايقونة والدة الإله ووعدتها بأنها لن تدنس جسدها فيما بعد فسمعت صوتا من السماء يقول: “إذا عبرتِ الأردن تجدين راحة مجيدة”. سارت في الصحراء حتى بلغت كنيسة القديس يوحنا المعمدان على نهر الأردن ثم وجدت مركبا صغيرا نقلها إلى الضفة الأخرى فلازمت المنطقة ، و بقيت حوالى نصف قرن كومـة من عظام وشيئًا رقيقًا رقيـقًا من اللحم، تقتات من عشب البرية وتصلي كل الوقت.

بقيت عواصف الميول السابقة تضربها 17 سنة حتى أدركت الهدوء. في ذلك الوقت كان في برية الأردن راهب يدعى زوسيما، والأديرة كانت كثيرة هناك. وكان يظن انه الأكمل بين البشر. غير ان الله اراد ان يبين له من كان اعظم منه. وكانت عادة الرهبان ان يغادروا اديارهم في اليوم الاول من الصوم ليوغلوا في الصحراء كل منهم على انفراد، ويجتمعون أحد الشعانين. وفيما كان يمشي في البادية رأى طيفًا من بعيد وتبين له انه امرأة عارية. خاطبها طالبا ان تقف، فقالت لا استطيع ان استدير اليك فأنا امرأة عارية فإليّ بردائك لاستتر واتمكن من التحدث اليك. فنزع رداءه وألقاه اليها وطرح نفسه على الأرض والتمس بركتها كما التمست هي بركته.

اعترفت بكل ما جرى في حياتها وقالت له ان يعود اليها السنة المقبلة حاملا القرابين المقدسة وعينت له مكان الموعد. فجاء عند الموعد وناولها. وهذا ما نراه في معظم ايقوناتها. وفي السنة اللاحقة جاء ايضا فوجدها ميتة ويداها مصلبتان على صدرها، ووضعها في حفرة ورقدت في سلام الرب في اول نيسان حيث عيدها الأساسي إلى جانب هذه الذكرى.

وضعت الكنيسة هذه الذكرى في آخر احد من الصوم لتقول لنا انه بقي لنا أيام قليلة نلج فيها الأسبوع العظيم المقدس الذي ليس فيه حيرة بين البرّ والشرور، وان أحد الشعانين يؤذن بدخولنا اورشليم اي بلد السلام مع الرب، سلام النفس. وسلام النفس لا يمكن حصوله اذا بقينا مستلذين اية خطيئة، أزِنا كان هذا ام كذبا أم سرقة ام غضبا.

هذا الأحد يوم تصميم على اننا تركنا المرحلة الأولى من حياة مريمنا هذه اي الغياب عن يسوع، لندخل المرحلة الثانية التي نرجو ان تكون الأخيرة وهي ان نلبس المسيح المبارك كليا، بلا تردد، بلا مشاركة لأعدائه، وبلا خلطة مع الظلمة، ليصبح السيد مالئًا كل كياننا الداخلي.

هل أنا اريده وحده؟ هل أنا أجاهد بكل قواي حتى الدم ليكون هو حبي الأوحد؟ هل أعمل بالشهادة والبشارة واللطف والرحمة بالناس وخدمتهم اليومية لأجعلهم جميعًا أسيادًا علي، وهكذا يلتمسون وجه يسوع، ونمشي وراء المعلّم الى اورشليم العلوية التي يسوع مقيم فيها، حتى نبقى له هنا وهناك ونقيم امامه فصحًا أبديًا.

ما لاحَ لي مؤخرا لمّا جاءها الراهب زوسيما ليناولها جسد الرب وجثا أمامها انه لم يستطع الا ان يفعل ذلك لأنـه لم يكن امام مشهد امرأة. كان أمام مشهد نور. وهي طبعًا لم تعرف انها مضيئة إذ ظلت تستغفر كل هذا الزمان وسمّت نفسها خاطئة حتى عـند دنو أجلها. maryofegypt_s.jpg

زانيـة عظيمـة ثم قديسة عظيمـة تلك كانت أمّنـا البارة مريم المصرية في القرن الرابع للميـلاد. أجل دخـلت كنيسـة القيامـة بعـد ان حجـت اليها آتيـة من مصر، وكانت هي اعظـم من كنيسـة القيامة لأن يسوع كان وحده عائشا فيها تناجيه ليل نهار وكانت حافظـة لصلوات الكنيسة والإنجيل استيقظت فيها بعد ان وئدت خطاياها.

القديس صفرونيوس الذي كتب سيرتها في القرن السابع كان يعلم بناء على شهادة الأقدمين انها في فترة اولى قبل حصولها على الهدوء الكامل كانت ذاكرة ذنوبها تُعاودها.

باختصار كلي احببت ان امجد بهذه السطور هذه المرأة العظيمة التي جعلتها الكنيسة في الصوم المقدس نموذجا للتوبة يحتذى به ولتقول لنا ان ما من خطيئة لا تُغفر لان رحمة الله اوسع من كل خطيئة وتذيبها ان اعترفنا بذنوبنا صادقين. ان في الانسان صورة الله كامنة وتتحرك اذا منّ الرب علينا بحنانه. تتحرك عندئذ طاقات الخير فينا وتغمر كمياه الطوفان كل اوساخ المعاصي ولا يبقى فينا الا نور الغفران.

فاذا ما اخذنا نتوب في هذه الأربعينية المقدسة، يزداد نورنا ونمشي مع كل المؤمنين إلى ضياء القيامة، فلا يبقى فينا الا فاعليتها وتصير حياتنا فصحا ابديا.

من احد الفريسي والعشار مرورا بالابن الشاطر حتى يوحنا السلمي وذكر الفضائل انتهاء بمريم المصرية نرى قمم توبة الى جانب آحاد هي ادنى الى التأمل اللاهوتي؛ انما تكمن اهمية مريم المصرية في ان نذكر اننا نحمل عبء الجسد ثقيلا والقلة تنعتق من هذا العبء. غير ان حضور زوسيما في السيرة يذكرنا بأن الذين تحرروا من وطأة الجسد قد لا يتحررون مما هو افتك اعني الكبرياء، كل منا له ضعفه الخاص او ضعفات متعددة، وامام كل هذه الضغوط وداعة المسيح وطراوته. وازاء كل التجارب التي تنتابنا تنتصب صورة مريم المصرية مذكرة بأن الله قادر ان ينشلك من كل نجاسة ويريحك من كل خطيئة مهما ثقلت. المهم الا تستسلم الى اليأس والا تحالف الخطيئة، ان تقول ان المعاصي هي ضد المشيئة الإلهية وان محبة الله معي لكي أفيد منها حتى أَخلص .
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان).