مارون الخلقيدوني الأرثوذكسي قديس الكنيسة

http://www.annahar.com/media/images/Sun_pix/adian/p11-04-23612.jpg

تعيّد الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية المقدسة في الرابع عشر من شهر شباط لعيد القديس الكاهن مارون المتوشح بالله.
جاء في تاريخ القديسين ذكر قديس ناسك اسمه مارون رقد في بدايات القرن الخامس الميلادي، لأن تحديد تاريخ رقاده غير معلوم. البعض يقول 435 والبعض يجعل رقاده عام 410، ومارون في السريانية يعني تصغير للفظ “مار” الذي يعني: “السيد”.
مصدرنا الوحيد عن مارون الارثوذكسي الانطاكي هو ما كتبه ثيئوذوريطس في كتابه: “تاريخ اصفياء الله” عام 444 وهو كتاب يؤرخ فيه مؤلفه سير الرهبان معاصريه. ولكن لم يحرص على اعطائنا سيرة كاملة للقديسين، بل حرص على رسم لوحة رائعة عن القداسة النسكية في المناطق التي اتى على ذكرها متغنياً في بضع كلمات بامجاد النسك من مصر الى فلسطين فشمال سوريا، لذلك لم يرو لنا قصة كاملة لا عن ميلاد مارون الارثوذكسي وحياته ولا عن احواله ولا يذكر ثيئوذوريطس في اي نقطة جغرافية من سورية تنسك مارون الارثوذكسي، فهو يقول: “ان القديس الذي كان زينة في جوقة القديسين الالهيين” اتخذ له رابية كانت في الماضي كريمة لدى قوم من الكافرين حيث كان هيكل لشياطين فحوّل ما فيه الى عبادة الله ثم ابتنى لنفسه منسكاً حقيراً يلجأ اليه”.
وضمن التراث الابائي الارثوذكسي وصلنا رسالة بعثها القديس الانطاكي يوحنا الذهبي الفم الى القديس البار مارون الارثوذكسي، يذكر فيها بالصداقة القديمة ويوصيه بأن يصلي لأجله. فيقول يوحنا في هذه الرسالة التي دوّنت على الارجح بين عامي (404-405) “اننا لمرتبطون معك برباط المحبة حتى لو كنا بعيدين بالجسد نواصل التفكير بما يختص بنشاطك”…
اذا كان القديس مارون ارثوذكسي الهوية والانتماء والممارسة فمن المؤكد ان قديسنا مارون قد توفي قبل نشوء الكنيسة المارونية المقدسة، ان تسمية الكنيسة المارونية تعود الى دير القديس مارون الذي بناه اتباع القديس مارون وتلاميذه في منطقة افاميا المعروفة الآن باسم قلعة المضيق قرب مدينة السقلبية قرب حماة في سوريا على ضفاف نهر العاصي. يقر الاختصاصيون لقديس مارون الارثوذكسي بأنه زعيم حركة الحبساء والمتوحدين والنساك في القورشية. وقد استقى ثيئوذوريطس معلوماته عن القديس مارون من تلميذي يعقوب وليمنينوس.
ان منطقة قورش القديمة معروفة الآن باسم “قلعة النبي هودي” في منطقة مجاورة لمنطقتي عفرين واعزاز في محافظة حلب وهي منطقة جبلية جارتها منطقة دير القديس سمعان العمودي.
يعتقد المؤرخون ان القديس مارون اختار هذه المنطقة “(قورش) لنسكه في جبل اسمه الآن “برساداغ” يبعد 10 كلم عن عمود القديس سمعان. كان مكرساً لعبادة ارطاميس برسيئا، يرتفع عن سطح البحر 850 مترا. المنطقة ممتازة للنسك بفضل مشارفها الجبلية.
كان القديس مارون الارثوذكسي يعيش في العراء. وكان يتوقى الثلج والمطر بارتداء جلد الماعز. وكان مجلِّياً في ميدان النسك، فقطع اشواطاً بعيدة الاغوار احرز فيها قصب السبق على سواه. فابتكر الواناً من التقشف وشظف المعيشة. وكلل الله جهاداته بفيض غزير جداً من البركات والنِعم والمواهب. وإن كانت العجائب لا تدل على قداسة الحياة الشخصية، الا انها اكليل في جملة اكاليل الأبرار.
فالقديس يوحنا السلمي ينوه بما يخص به الله الرهبان من مواهب. انما الحياة الشخصية الطاهرة الكاملة هي الاساس. وقد خص الله القديس مارون بموهبتي شفاء الامراض وطرد الشياطين حتى طبّقت شهرته الآفاق، فتقاطر اليه الناس من كل المناطق. فشفى الأمراض من جميع الالوان. ولم يكن يلجأ الى ادوات وعقاقير. اداته الوحيدة كانت الصلاة الطاهرة. وتعلّق الناس بالحبساء اكثر من الأطباء، فأتوهم خاضعين مستسلمين في الامور المستعصية وغير المستعصية.
وما كان الحبساء يحبسون انفاسهم. فالقديس مارون اطلق العنان ليشفي مرضى النفوس من اسقامهم. فوقف مرشداً روحياً كبيراً يقود الخاطئين في سبل البر حتى تحولت منطقة قورش الى روضة مقدسة تعج بالغروس التي غرسها، اي بالرجال الافاضل.
يوحنا الذهبي الفم ومكسيموس المعترف علَّمانا ان الاحسان الى الروح أهم من الاحسان الى الجسد بما لا يقاس. ويبدو ان القديس مارون كان ثقة حتى لدى اليهود. فكان قوم منهم قد التجأ الى سمعان القديم (هو غير العمودي)، فأجرى عجيبة على احدهم. ثم جاء يرويها (في حضرة مار يعقوب الكبير) لقديس مارون. فنقلها يعقوب لثيئوذوريطس الذي نعت هنا مار مارون بــ”الملهم” (3:6). وكان القديس مارون شديد الإعجاب بالناسك القديس زيبيناس. فكان ينصح زائريه بأن يقصدوا زيبيناس ليحصلوا على بركته. وبلغ إعجابه به حداً دعاه معه: “أباه ومعلمه والنموذج الكامل لكل انواع الفضائل. وكان يلتمس بالحاح كبير “ان يودَع جسداهما قبراً واحداً”. ولكن توفي زيبيناس قبل القديس مارون.
اما في اعماله التقشفية “فلم يكتف، القديس مارون، بتمريس نفسه على المعتاد منها “كالاصوام والصلوات المستطيلة، والليالي الساهرة في ذكر الله، وإطالة الركوع والسجود وتلاوة السواعي في مواعيدها، والتأملات في كمالات الله، ومناجاته تعالى، وحبس نفسه في منطقة محدودة لا يخرج منها الا لشغل الارض في اعمال يدوية تضني الجسم وتقمع شهواته، مع قهر الجسد باللباس الخشن والمسوح الشعرية، وتحريم الجلوس احياناً، ومنع النوم ليالي بكاملها؛ ثم الانصراف الى وعظ الزوار وارشادهم، وتعزية المصابين والحزانى منهم. كل هذا لم يكتف به مارون. “بل كان يزيد عليه ما ابتكرته حكمته جمعاً لغنى الحكمة الكاملة، لأن المجاهد يوازن بين النعمة والأعمال، فيكون جزاء المحارب على قياس عمله”.
ولا نرى في قدر هذه الحياة النسكية الكاملة، وتعداد نتائجها الخيّرة في نفس ممارسها، وفي افادة المجموع جسدياً ونفسياً، ورفع مستواه الروحاني، خيراً من كلام تيودوريطس، نورده بنصه، متذوقين ما فيه من نكهة البساطة وعمق التأثير. قال: “لكن القديس مارون لم يقتصر على شفاء امراض الجسد، بل كان يبرئ ايضاً امراض النفس. فكان يشفي انساناً من البخل، وآخر من الغضب، ويعلّم رجلاً الاقتصاد، ويعلّم غيره قانون العدل. وينهي واحداً عن استباحة المحرّمات، ويوقظ آخر من غفلة التواني”. ولنتصور تلك الجموع المحتشدة حول منسك القديس تنتظر ان يُقبل عليها ببركة او نظرة او كلمة يخفف فيها من ادوائها الجسدية والنفسية.
مات القديس محاطاً بجمهور من تلاميذه الذين كانوا قد اهلوا قم القورشية وأوديتها ومغاورها حتى اصبحت حديقة مزدهرة بثمار القداسة المتنوعة. فأوصى القديس مارون في آخر ايامه، بأن يُدفن في قبر زيبيناس، قاصداً البرهان على إعجابه بفضائل الشيخ الراحل، ورامياً الى اعطاء سائر التلاميذ امثولة اتضاع. الا ان وصيته لم تنفذ، فما ان فاضت روحه، حتى تزاحمت على جثته الجماهير المتقاطرة من القرى العديدة، وكل جمهور يود لو اختطف الجثمان فدفنه في قريته. وكان يؤدي النزاع الى العراك، (هذا النزاع على اجساد القديسين كان شائعاً جداً فبالقوة العسكرية تم نقل جثمان القديس سمعان العمودي الى انطاكية)، حتى ظفر اهل قرية من جنوبي القورشية، فنقلوا الجثة ودفنوها في قريتهم. وأقاموا على القبر تلك الكنيسة التي ذكرها ثيئوذوريطس، وجعلها بعيدة عن مركز اسقفيته اي قورش، من دون ان تكون خارجة عن الابرشية. قال: “ومع اننا بعيدون عن القديس، فان بركته تشملنا، وذكره يقوم لدينا مقام ذخائره”. فيكون قبر القديس، والكنيسة الاولى المقامة على اسمه، إنما كانا “في شمالي سورية، جنوبي قورش، في نحو نصف المسافة بينها وبين حلب”، كما يستنتج الأب لامنس.
اما تاريخ رقاد القديس مارون فمجهول. في حسابات Canivet كان مارون حياً في العام 406. ولا نعلم شيئاً سوى ذلك. ففي العام 406 تركه تلميذه يعقوب الكبير ليعيش في العراء، فكان ذلك في 444، عام تدوين التاريخ، اي بعد 38 سنة.
نعرف انه في العام 536، في عهد الامبراطور جوستينيانوس الكبير، بُني دير هام على اسم القديس مارون في “ارمناز” احتل المكانة الاولى في سوريا الثانية البيزنطية. وكان الأمبراطور مركيانوس قد أمر في العام 452 بإشادة دير بالقرب من أفاميا على اسم مار مارون. وهناك غالباً أديرة اخرى. الا ان أشهرها هو الدير المذكور الذي اختفت آثاره كلياً، فلا يهتدي الباحثون اليوم الى اطلاله. والجدير بالذكر ان لغة رهبانه كانت اليونانية. فالبقعة كانت خاضعة للثقافة اليونانية فضلاً عن كون الكتاب المقدس المستعمل والتراث المسيحي آنذاك يونانيين بالدرجة الاولى. وقد حضر رهبان منه المجمعَ الخامس المسكوني. وترأس رئيسه بولس وفد رهبان سوريا الى مجمع في القسطنطينية في العام 536 وقدم شكاوى ضد سويروس أنطاكيا وبطرس أفاميا المعاديَين لخلقيدونيا.

الأب باسيليوس محفوض