القديس يوحنا الدمشقي

محاضرة للمطران جاورجيوس (خضر) – دمشق ٣٠ حزيران ٢٠٠٨

http://www.ortmtlb.org.lb/_themes/modular2/amodrule.gif

هذا كان في الرهبانية اسم منصور بن سرجون الدمشقي المولد والنشأة وهو حفيد سميّه منصور الذي وُلي بيت المال بعد فتح دمشق في خلافة معاوية. وهذه العائلة كانت ضليعة من العلوم المالية والمحاسبة والديوان الأموي كان لا يزال يستخدم اليونانية. عند تبوّء عبد الملك بن مروان العرش عرّب لغة الديوان واستغنى بذلك عن الموظّفين النصارى.

آل منصور أسرة أرثوذكسية الإيمان. والى الأرثوذكسيين كان في الشام اليعاقبة الذين في لغة اليوم هم السريان الأرثوذكس. عند فتح الشام كان منصور بن سرجون الجد عاملا للروم على دمشق ولما رأى أن العرب يحيطون بأسوار دمشق فتح باب شرقي لخالد بن الوليد ودخول العرب عنوة ما كان ممكنا لأن الحامية الرومانية كانت جلت عنها إلى حمص وكان، إذ ذاك، دخولهم المدينة سلميا. وفهم منصور انه لا يواجه غزوة عربيّة عاديّة وان هؤلاء القوم الوافدين من الجزيرة إنّما أتوا ليبقوا.

وقد أدرك الفاتحون انه لا بد لهم أن يستخدموا أبناء البلد في الإدارة وفي الصناعة الحربيّة فأوكِل إلى منصور بناء أوّل أسطول عربي في ميناء طرابلس وكان البحر غريبًا عن العرب فقام بهذه المهمة واقتحم بهذا الأسطول معاوية جزيرة قبرص. ويزيّن لي أن هذا المسيحي التقيّ كان يصلّي صباح الأحد في كنيسة المرفأ فيما هو يبني سفنًا حربيّة للمسلمين أي انه كان يفصل في ذهنه بين دينه ودنياه في سياق التعايش الكريم بين الحكم الإسلامي والأهالي المسيحيين.

بتعبير اليوم ظهر مع معاوية فكرة الإمبراطورية التي كان يجب ان توازي الروم والفرس وفَهِم الخليفة الأموي أن مواجهته للروم ممكن توفيقها مع تعاون نصارى الشام ما يعني فهما للسياسة مركزا على سوريا والجدة الكبرى في هذه السياسة ان دمشق أمست عاصمة العرب الذين أخذوا يَعون شيئا فشيئا انّهم قوّة عالميّة تحمل حضارة السوريين بما أتوا به من حضارات الشرق القديم ولاسيّما من الإرث الآرامي. رأى الأمويّون على رغم تشدّد ديني ان المسلم مسيحي بطريقة ما لاعتقاده انه يرث أساسيّات منها في دينه ذلك أن كل الموحدين حسب التعليم القرآني مسلمون. وفهم الأمويون ثانيا انهم لا يتعاملون وعنصرًا هجينًا. بشيء من الرحابة وعدم الانسلاخ عن الماضي ظهر هذا الحكم العربي الآمر سياسيا في بلاد الفتح والمتلقي الكثير حضاريا منها.

أدهشني في العرب تواضعهم إزاء هذه المدينة القديمة في سوريا التي كانت تعدّ ثمانية ملايين نسمة عندما فتحها العرب بعدد قليل جدًا من الفرسان. ولكن توقهم الى إنشاء أمبراطوريّة دفعهم إلى تلاقي قوّتهم وحماستهم الروحيّة ومنافعهم الاقتصاديّة من جهة وثقافة أهالي البلدان المفتوحة.

نشأ طبيعيّا نوع من التناضح بين الفاتحين وسكّان المدن بعد ان كانت أذهان العرب تائقة إلى عرب بادية الشام أوّلا. وكان هذا التناضح شهوة الحكم اذ كان يتبنّى عُصارة الحضارتين القديمة والمسيحية ويسكبها في قوالب إسلاميّة ويؤمن بما يؤمن ولست متأكّدًا ان كان ينضوي تحت راية الآية الكريمة: “وللآخرة خير لك من الأولى” (سورة الضحى ٤). الإشراف على الدنيا وتوليها بما تقوم عليه من مقولات محاولا الا تضعف تقواه كان هاجسه الأساسي. وهذه المقولات – الدعائم كان يقيم عليها الحياة الجديدة التي يحميها بالسلاح والقلاع.

في هذا المناخ عمل آل منصور الذين انحدر منهم ذاك الذي نوجز سيرته هنا. هل كانوا عربًا قبل الفتح وكانت قبائل عربية كثيرة قد استوطنت بلاد الشام. لا نستطيع أن نؤكّد ذلك. الثابت انّهم كانوا يتكلّمون اليونانية مثل كل اهل المدن السورية والسريانية كانت لغة الريف. ولكني اميل الى الاعتقاد انهم انكبّوا على العربية فور الفتح اذ كان عليهم ان يخاطبوا الخلفاء وقناعتي ان يوحنا الدمشقي ألم بالعربية اذ نعلم انه كان نديمًا للخليفة يزيد فاللغة المشتركة بينهما كانت بالضرورة عربيةٌ ما ولكن ظنّي انه لم يكن يملك النص الى درجة فهمه السليم للقرآن اذ أخطأ في موضع او في غير موضع في فهمه للمصادر الإسلامية في كتابه الصغير: “جدل بين مسيحي ومسلم”. غير اننا لم نعثر على أثر منه بالعربية اذ كان يكتب باليونانية لأهل دينه مفسّرًا العقيدة. ولم يكن يتوقّع ان يقرأه العرب الفاتحون. يبقى أن الأخطل كان صديقًا للعائلة ولا بد اذًا من أن الذي نؤرّخ له قرأ الشعر العربي. الى هذا ينبغي التأكيد أن معرفة يوحنا للعربيّة كانت أضعف من معرفته اليونانية ولاسيّما ان هذه كانت لغة البيت والكنيسة.

وما يثبّت نظريّتنا هذه ان أساس الثقافة عند يوحنا جاء من أن أباه وجد أسيرا مسيحيا عند العرب فطلب تحريره الى بيته وكان هذا يعرف كل علوم العصر وأوكل اليه كل تربية ابنه فأخذ هذا عنه البلاغة والفيزياء والحساب والهندسة وعلم الفلك واللاهوت وما أهّله أن يقتبس من الفلسفة اليونانيّة الكثير.

ما من شكّ أن يوحنا احتلّ منصبًا في الإدارة الأمويّة ولكن هل ولي على بيت المال كأبيه وجدّه في عهد معاوية؟ لقد ورد في سيرته العربية ما مفاده انه كان أمين سر لأمير المدينة وله مكانة عليا عنده. اما السيرة اليونانيّة فتقول انه كان المستشار الأوّل اي انه كان يلي الخليفة. وبهذه الصفة كان هو الذي يشرف على المال ويجبي الجزية والخراج من المسيحيين..

ثم صعب وضع هؤلاء في عهد عبد الملك الذي مَلَكَ حتى السنة الـ ٧٠٥ ميلادية وكان يزيد قد حطّم بعضًا من أيقونات الكنائس وربّما كتب يوحنّا بعضًا من رسائله الثلاث دفاعًا عن الأيقونات وهو في دمشق ردًا على حرب الأيقونات التي قام بها أباطرة الروم. ومنذ عهد عبد الملك بسبب من تضييقه على المسيحيين لم يكن يوحنا يتوقّع ان يستبقى في القصر. ثم نراه بعد ان قضى فترة طويلة في الإدارة الإسلامية يغادر الى فلسطين كي يترهّب وربّما كان ذلك في السنة الـ ٧٢٤.

هل يعني هذا ان يوحنا هرب من الشام خشية قمعه الشخصي ولم يكن هذا التماسا منه للتقرّب الى الله؟ لا أستطيع أن أقطع هذا. ولكنّا نعرف تقواه في أشياء قليلة كتبها في دمشق. أجل قوي تعبّده في دير مار سابا وهذا يُعرف من آثاره المكتوبة. لا يترهّب إنسان من هذه القامة الفكرية ما لم يكن له وزن روحي يتجاوز فيه ظروفه الشخصيّة.

ان السماحة غلبت على الحكم الإسلامي العربي قبل حلول المماليك في هذه البلاد ما تبيّنه الأبحاث الديموغرافيّة المتأخّرة وهي أن المسيحيين بلغوا في القرن الثالث عشر اي في العهد الفرنجي ٧٥٪ في بلاد الشام.

وقد افترض بعض العلماء أن حرب الأيقونات تأثّرت لشنّها الأسرة الايسورية الحاكمة في القسطنطينيّة بالإسلام وقيل باليهوديّة. عندي ان هذه التأويلات غير ثابتة وان هذا الجدل كان نابعا من خلاف بين كبار اللاهوتيين المسيحيين قبل حرب الأيقونات بكثير ولا سيّما ان اليهوديّة عرفت التصوير الديني في مجمع دورا اوربس القائم حاليا في متحف دمشق وقد نُقل اليه.

اما في ما يختص بالتأثير الإسلامي على موقف أباطرة الروم فأرده الى سببين: أولا: لم يكن الحديث الشريف قد جُمع في ذلك العهد الى هذا أرى أن الحديث الذي يحرّم التصاوير في الإسلام يبدو لي ضعيفًا لأن لدينا لوحات وجوه بشريّة في العهد الأموي قد نُشرت ولدينا تصاوير من أهل السنة والجماعة نعرفها في مخطوطات موجودة اليوم في بطرسبرج وهي من القرون الوسطى وقد تسنّى لي أن أراها.

من تقاطع الأحداث نقدر أن نقول أن الرجل التحق بدير مار سابا قرب بيت لحم في العشرينات من القرن الثامن الميلادي وكان له من العمر خمسة وأربعون عاما. في هذا المكان اجتمع رهبان كثيرون من كل صوب بما فيهم الأرمن. معظم الرهابين جاؤوا من مدن فلسطين وسوريا وآسيا الصغرى وكان لكل فئة لغويّة كنيستها. وكان القرنان الثامن والتاسع العصر الذهبي في هذا الدير. كانت اليونانية اللغة السائدة ولكن كان هناك رهبان عرب جاؤوا من القبائل العربية المتبدية في فلسطين. رُسم قديسنا كاهنًا في مار سابا. ولا بد أنه بعد ذلك ألقى محاضرات ونظّم ندوات ولا سيّما حول الإسلام. وضع مقالات ضدّ البدع ولاسيّما ضد محاربي الأيقونات من المسيحيين. وتمتّع هناك بحريّة كاملة في الكتابة.

ولعلّه مات السنة الـ ٧٥٤ اي أربع سنوات بعد سقوط الأسرة الأموية التي كان هو وأهله متّصلين بها. وربّما بسبب هذا التواصل المسيحي ـ الإسلامي جُعل القديس يوحنا الدمشقي نموذجًا للحياة المشتركة التي يعيشها بعض المسيحين مع المسلمين.

يزيّن لي أن ما استوعبه يوحنا الدمشقي هو قول القرآن: “لا إكراه في الدين”(سورة البقرة ٢٥٦) او “لكم دينكم ولي ديني” (سورة الكافرين ٦) بحيث يتمسّك كل واحد بمعتقده ويبقى العيش واحدًا على كثير من المودّة في الحياة اليوميّة. أظنّ أنّ المسلمين حتى عشيّة الاحتلال المملوكي كانوا على براغماتيّة توحي اليهم ان الكنيسة باقية وافتراضي هذا مبنيّ على اني لم أرَ المسلمين يقومون بالدعوة بشكل نظامي ومهيكل. ويزيّن لي انّهم كانوا يكتفون ببناء المساجد وقبول بعض الأفراد في الإسلام ووضع كتب في علم الكلام والفقه. الى هذا كان المسيحيون مشدودين الى الهجرة من زمان طويل وهكذا زالت المدن السورية الدارسة بين حلب وانطاكية.

عودًا الى الدمشقي اول سيرة كُتبت عنه هي العربيّة ولها مقدمة نعرفها فقط من مخطوطة وُجدت في القرن السابع عشر في كَفربهم قرب حماه وربما اتخاذ المسيحيين اللغة العربية لوضع سيرة مرده الى خوفهم من محاربي الأيقونات في امبراطوريّة الروم في حين ان هذا الجدل لا يهتمّ له الحكم الإسلامي.

كُتبت سير أخرى عن الدمشقي فيما بعد باليونانيّة. الى ذلك كتب اليعاقبة عنه والمؤرّخون المسلمون ايضا فيما كانوا يصفون الحياة في سوريا في زمن الأمويين ودقّقوا في وضع عاائلته. على ذلك هناك ثغرات كثيرة. العائلة معروفة بالتصاقها بالحكم العربي وقد سُمّي أبو الدمشقي مولى الخليفة.

لا نعرف على وجه الدقّة متى وُلد قدّيسنا. منهم من قال انه ولد السنة الـ ٦٧٥ ومنهم من قال انه ولد السنة الـ ٦٥٢ ولكن أكثر ما نعرفه هو نشأته في دمشق وأفضل مصدر لمعرفة حياته كتبه لبسط العقيدة الأرثوذكسية والدفاع عنها ضدّ اليعاقبة والنساطرة وأصحاب المشيئة الواحدة وضدّ المانويين وهذا يعني انه تصدّى للبدع في العراق وفارس ايضًا والبعض منها لا نجد لها أتباعًا عديدين في سوريا. لعلّ هذا يعود الى أن دير مار سابا الذي عاش فيه راهبًا كان له اطّلاع على كل الفكر المسيحي المستقيم الرأي او المبتدع.

ربّما كانت مواعظه وسير القديسين التي كتبها تدلّنا أكثر من كتاباته العقدية على روحه الإنجيليّة وعلى عمق تقواه وهي كثيرة. الى هذا كتب في النسك والأخلاق اي في الفضائل والرذائل. غير انه لم يهمل الشعر الديني وهو معروف على أنه افضل المنشدين وقد نقل الترنيم البيزنطي من نظام القديس رومانوس الى نظامه هو وذلك على ثمانية ألحان ولعلّها أهم ما في تيبيكون مار سابا اي كتاب تنظيم الصلوات في المواسم والأعياد الصغرى والكبرى.

أخيرًا لا بدّ من السؤال حول مكانته في الفكر واللاهوت. بعض من المتأخّرين الألمان يقولون ان إشكاليّة الفلسفة الإسلامية جاءت كلها منه لمّا عالج قضيّة الحرية والجبر. ان كان من تأثير ما هذا لا يعطل كون فلاسفة الشعوب تطرح المسائل الكبرى نفسها بسبب من الشبه بين النصوص التأسيسّيّة هنا وهناك.

غير ان المسألة المطروحة من زمن طويل تتعلّق بأهميّة التراث اللاهوتي الذي تركه الرجل. هل كان مبدعا، مجددا ام اقتفى آثار الاسلاف الصالحين. ما لا مهرب من قوله هو ان الرجل اول من وضع منظومة لاهوتية عقدية وبيانا متكاملا او Système. لم يكن أحد قبله ألّف رسالة في اللاهوت شاملة. كانوا يتناولون موضوعات مستقلّة في سبيل الدفاع عن الايمان.

ان رسائله في معرفة الله وعنايته وسبق التعيين أثّرت كثيرًا. في الجدل بين اللاّتين والأرثوذكس عاد القوم اليه من الطرفين. ولا سيّما في موضوع الثالوث وإكرام القديسين والأيقونات والذخائر وكان له تأثير في الإنشاد كبير.

بين القرنين العاشر والحادي عشر اخذ الكرجيون والأرمن والعرب ينقلونه الى لغاتهم. اول ما نُقل كان ينبوع المعرفة كتابه الأشهر. ومهما قيل عن إبداعه او قلّة ابداعه يمكن القول عنه ما قاله بولس الرسول عن نفسه: “جاهدت الجهاد الحسن، أكملت سعيي، حفظت الإيمان” (٢كورنثوس٧:٤). ما أريد ان أضيف الى هذا ان هذه الأمة كانت قادرة على ان تنتج في كل شرائحها كبارا جعلوها في بعض المراحل في طليعة البلدان المتحضّرة والإلهيّة الإلهام ما خلا آسيا الصغرى والإسكندرية قليلا كانت سوريا التاريخيّة فكريّا المسيحية كلّها في وجوهها الكبارحتى أواخر القرن العباسي وذلك بلسان عربيّ بليغ.