عيد مار انطونيوس ( منشئ طريقة النسك المنفرد (

http://www.qenshrin.com/news/ever/2008/f_Antounios.jpg

الرهبانية هي حياة التبتل والزهد والاعتزال ، نشأت مع المسيحية في مهدها ، فقد وجد منذ صدرها ألوف الرهبان و الراهبات تبتلوا وتعبدوا ، وكانوا يقيمون في البراري ، فيذكر العلامة ابن العبري أن الرهبانية عرفت بعد الصعود بمائة سنة .لم تأخذ الرهبانية شكلاً بارزاً إلا في القرن الرابع ، فجذبت في أول عهدها أقوى المسيحيين روحانية وأعمقهم تعبداً ، مما جعلها فيما بعد ( على الرغم من ابتعادها عن العالم وبعدها عن الكنيسة ) أن تتولى الزعامة في الحياة الفكرية المسيحية .
تطورت هذه الحركة حتى غدت قوة هائلة إلى جانب الكنيسة النظامية ، وتفرع موكب المسيحية إلى قوتين ، إحداهما في المدن والحضر تحت زعامة الأساقفة تحيا الحياة المسيحية في الأوساط الوثنية ، وهرعت الأخرى إلى القفار لتحيا حياة الزهد وإذلال النفس ، بالروح عينها التي بذل بها الشهداء حياتهم من أجل السيد المسيح .
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن فضيلة التواضع عند الرهبان : ( تعال معي نطوف في البراري والجبال وبطون الأودية ، ونشاهد الذين تخلوا عن الغنى والمراتب العالية والشهوات الزائلة والأموال والأراضي ، ولزموا الأعمال المتعبة والحرف الحقيرة ، هذا يحرث الأرض ويزرع ويحصد ، وذلك يجمع الحطب أو يسف الخوص أو يشتغل بعمل القفف أو يخدم الفقراء .هؤلاء كلهم أعرضوا عن الكبرياء والافتخار وروضوا أنفسهم على التواضع ، فأشرقت على الأرض فضائلهم وجذبوا الناس إلى عمل الخير ) .
فبعض أولئك الرهبان أذلوا أنفسهم أيما إذلال وعاشوا حياة قاسية ، فكان بعضهم لا يأكل إلا مرة واحدة كل خمسة أيام ، و يمتنع البعض الآخر عن شرب الماء إلا نادراً، وعاش آخرون في أماكن ضيقة بحيث لا يمكن مد أرجلهم ، أو فوق الأعمدة كمار سمعان العمودي ، وحرم بعضهم أنفسهم لذة النوم مثل مار برصوم . فلمع منهم معلمون وزعماء روحيون خلد التاريخ أسماءهم لأنهم حولوا المناسك والديارات إلى مدارس زاهرة ، فيها تربى دعاة النصرانية وطبقات الأساقفة ، والقديسون والكتاب الذين حفظوا للعالم كتب العلم والدين وزودوا اتباعهم ومريديهم بأفضل التعاليم عن الحياة المسيحية .وبثوا روح الحياة والتجديد في البيت والدولة والكنيسة .
كان مار أنطونيوس مؤسس الرهبانية الانفرادية أي التعبد في المناسك والصوامع على انفراد فسمي بأبي الرهبان
فمن هو هذا الناسك :
ولد حوالي سنة 251 في بلدة \” قمن \” بصعيد مصر من أسرة عريقة غنية وأبوين صالحين ربياه على مخافة الله،فاقتبس عنهما شيئاً كثيراً من حميد الخصال ، ومات أبواه وهو في العشرين ، فانصرف إلى إدارة أملاكه وبيته والعناية بأخته .
وذات يوم سمع في الكنيسة قول السيد المسيح للشاب الغني: \” إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك واعطِ الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني \” فاتخذ هذا القول لنفسه وأطاع الوصية حرفياً ، فباع أملاكه ووزعها على الفقراء والمحتاجين ، وأودع أخته بيتاً لبعض العذارى الورعات وصرم حبل الدنيا ، منفرداً في البرية عابداً الله قامعاً جسده مروضاً نفسه ، وهناك حاول إبليس إغراءه بمختلف الوسائل ولكن رجل الله غلبه بالصلاة والصبر والرجاء مستعيناً في جهاده بقوة المسيح سيده وربه ، وأفلح في إماتة شهواته وكظم غيظه وقمع جسده ، فلم يقتات إلا يسيراً ، ولم يكن يرتدي إلا المسوح ، ولم يكن يفترش إلا الأرض وحصيراً بالية.
أوى أولاً إلى قبر مهجور ، ثم إلى قلعة متهدمة ، وانتشرت أخبار صلاحه وتقواه ، فهرع إليه الناس في البرية يطلبون البركة والشفاء على يديه ، وسار وراءه خلق كثير أخذوا عنه الطريقة في التعبد والاعتزال ، فكان هو مؤسس الرهبانية الانفرادية أي التعبد في المناسك والصوامع على انفراد .
وخرج القديس أنطونيوس أبو الرهبان مرتين عن عزلته في الصحراء إلى الحضر ، مرة في عام 313 م ليشجع الشهداء ويعزّي المضطهدين في شدة الطاغية مكسيمان ، وقد اشتاق أن يكون هو نفسه شهيداَ ، فكان يظهر في مدينة الاسكندرية علناَ ويتقدم إلى الحاكم ويجادله ويحاوره ، ولكن لأمر ما امتنع الحاكم عن ايذائه ، وعاد القديس إلى صومعته في البرية ، وراح الناس يتقاطرون أفواجاً للتبرك منه وسماع نصائحه ، وإذ خشي أن يشغله هذا عن التعبد ، مضى إلى البرية الداخلية مع قوم أعراب حيث وجد بعد مسيرة ثلاثة أيام عين ماء وقليلاً من القصب وأشجار النخيل ، فأحب الموضع وسكن فيه ، وكان العرب يأتون إليه بالخبز ، وأما وحوش البرية فقد أنست به ولم تؤذِه فاتخذ منها أصدقاء له . والمرة الثانية عام 351 م يوم قدم ليعضد آثناسيوس الرسولي في جهاده ضد الآريوسيين الذين حاولوا إفساد الحق بباطلهم . وكان مار أثناسيوس قد زاره قبل ذلك سنة 333م ومكث عنده فترة من الزمن التماساَ للأمن ، فأخذ عنه ، وكتب سيرته فيما بعد ، فأقبل القوم رجالاً ونساءً على قراءتها بلهفة وشغف ، وشاعت في إيطالية طريقته في التعبّد والنسك فاقتدى بها الغربيون ، وبعد هذا التاريخ بمائة سنة قرأ أغسطينوس هذه السيرة التي كتبها اثناسيوس فقرّبته إلى الله وهدت قلبه إلى الحق .
وانتهت إلى مسامع الملك قسطنطين أخبار هذا القديس في برية مصر ، فكتب إليه يمتدح ورعه ويطلب إليه أن يصلي من أجله ، ففرح زملاؤه برسالة القيصر ، أما هو فلم يحفل بها وقال لهم : هو ذا كتب الله ملك الملوك توصينا كل يوم ونحن لا نأبه لها بل نعرض عنها ، ولكن بعد إلحاح زملائه واقتناعه بأن هذا الملك إنما هو من أنصار الدين وحماة الكنيسة ، ارتضى أن يكتب له رسالة باركه فيها وطلب أن يسود السلام الإمبراطورية والكنيسة .
وبعد عمر طويل شارف على المائة والخمس ، انتقل القديس إلى جوار ربه وذلك في اليوم السابع عشر من شهر كانون الثاني عام 356 م بعد أن انتشر في العالم المسيحي عطر قداسته وتقواه وشاعت عنه الخوارق والمعجزات.
وكان قد أوصى بإخفاء جسده في البرية ، وإعطاء عكازه للقديس مقاريوس الذي كان قد زاره وألبسه زي الرهبنة، وفروته للقديس أثناسيوس ، والمنطقة الجلد لتلميذه سرابيون ، ودوّن عنه رهبانه رسائل روحية ونصائح نافعة اعتزت بها الكنيسة والأديرة دهراَ طويلاَ .

وأخيراً انتقلت الرهبانية من مصر إلى بلدان الشرق الأخرى ، واتخذت مواطنها في سواحل فلسطين الجنوبية وبادية الشام وبرية قورش وجبل الرها والجزيرة وطور عبدين وجبل الموصل وجبل ماردين وضواحي قيصرية قبدوقية وطور سينا . وثم انتقلت الرهبانية من الشرق إلى الغرب .

من كتاب \” عِبر في سِير \”
إعداد :لوسين كردو ـ قنشرين