كيف يجب أن نتقدم إلى الأسرار المقدسة

القديس يوحنا الذهبي الفم

فلننقطعن كلنا لممارسة الفضائل وأهمها الإيمان والرجاء والمحبة والتعقل والصدقة والضيافة لكي نعترف بالجميل للخالق المحسن. وكما طلبت منكم قبل قليل، أطلب منكم الآن أيضاً، وسأستمر دوماً بأن أطالبكم به وهو أنكم عندما تزمعون أن تتقدموا إلى هذه المائدة الإلهية الرهيبة، اقتربوا بخوف ورعدة وضمير نقي، بعد أن تتهيؤوا لذلك بالصوم والصلاة والهدوء، دون جلبة وصخب، ودون أن تزاحموا بعضكم بعضاً، لأن الصخب والمزاحمة هي أفعال غير العاقلين، وهي تعبير واضح عن ازدرائنا بالمسيح، وتودي الذين يفعلونها إلى الجحيم، وتجلب عليهم العقوبة. تأمل يا أيها الإنسان أية ذبيحة أنتَ مزمعٌ أنْ تمس ومن أية مائدة أنت عازم أن تقترب. تذكَّرْ يا من هو رماد وغبار أنك مزمع أن تتناول جسد المسيح الإله ودمه، وتذكَّرْ أيضاً أنَّهُ إذا دعاك مَلِكٌ إلى مائِدَتِه فإنك تجلس إليها

بخوف وتأكل ما يقدَّمُ لك بحياء وهدوء، أما عندما يدعوك الله إلى مائدته ويقدم لك ابنه عليها، بحضور القوات الملائكية المرتعدة، حيث يحجب الشاروبيم وجوههم ويصرخ السارافيم بخوف مرتلين: قدوس قدوس قدوس ربُّ الصباؤوت، فأنت تثير الصخب والجلبة في ساعة المائدة الروحية تلك. ألا تعلم أن النفس في تلك الساعة بالذات يجب أن تكون ممتلئة هدوءاً وأنها تحتاج إلى سكون عميق جداً وسلام وصمت، لا إلى الصخب والحنق التي من شأنها أن تلوِّث النفس المتقدمة إلى المائدة؟ فأيُّ صفح عن الخطايا يمكن أن نحظى به، إذا كنا فوق كل خطايانا لا نتنقى حتى في ساعة اقترابنا من مائدته بسبب تصرفاتنا الهوجاء؟ ما الأمر الذي يمكن أن يكون أكثر أهمية من الأسرار المقدسة الموضوعة أمامنا؟ ما الذي يبهرنا إلى هذا الحد حتى أننا نهمل الروحيات ونسعى إلى الجسديات؟

أطلب منكم ملتمساً ألا نصبح سبباً لكي يتحرك غضب الله علينا، إذ إن هذا الموضوع أمامنا هو دواء يشفي جراحاتنا، وهو ثراء أبدي عربوناً لملكوت السماوات. فلنجزعنَّ إذاً عند اقترابنا منه. لنشكرن الله ولنركع أمامه معترفين بزلاتنا. لنبكِ ولننح على ما اقترفنا من سيئات، ولنقدم لله صلوات مطولة، وبعد أن ننقي ذواتنا هكذا، فلنتقدم من المائدة بسكون وانتظام لائق كما لو كنا نتقدم من ملك السماوات. وعندما نقتبل هذه الذبيحة المقدسة الطاهرة فلنتحبب إليها ولنعانقها بأنظارنا، ولنملأ عقولنا بالحرارة الروحية لكي يصبح تركيزنا وسيلة تقودنا إلى عفة نفوسنا، إلى المحبة، إلى الفضيلة، إلى المصالحة مع الله، إلى السلام الراسخ، وليس سبباً للمحاكمة والدينونة، لكي نتمكن من تقديس ذواتنا وتثبيت إيمان قريبنا.

إنني دائماً أقول لكم ذلك وسأقوله باستمرار. فما هو النفع من أن تتعبوا هنا عبثاً ومن غير هدف محدد ودون أن تتعلموا شيئاً مفيداً. ماذا نجني إذا كلمتكم دائماً عن أمور مبهجة ترضي رغائبكم؟ إن الزمن الحاضر لقصير هو، فلنكونن زاهدين متيقظين ومحترسين من الغفلة، مظهرين لجميع الناس عناية أصيلة، ولنكن ورعين في كل شيء. وإذا وجب علينا أن نسمع الكلام المقدس أو أن نصلي أو أن ندنو من مائدة الرب أو أي شيء آخر مشابه لتلك، فلنفعل ذلك بخوف وارتعاد لئلا نجلب علينا لعنة الرب بسبب تهاوننا، لأنه يقول: “ملعون من عمل عمل الرب باسترخاء” (أرميا 48: 10). فالفوضى والغضب هما إهانة للذبيحة الموضوعة أمامنا، ومن أسوأ أشكال الاستخفاف بالله هو أن يتقدم منه المرء ملوثاً ذاته بمثل هذه التصرفات. فاسمعوا ماذا يقول الرسول بهذا الصدد: “من دنس هيكل الله أهلكه الله نفسه” (1كور 3: 17).

فلنحترس إذاً من أن نثير الله ضدنا عوضاً عن أن نطلب مصالحته، ولنجتهد أن نحرز كل الرصانة المبتغاة لكي نظهر أمامه ونفوسنا خالية من الاضطراب، وقلوبنا كلها في الندامة والصلاة، فهذا السلوك يصيّر يسوع المسيح ربنا عطوفاً وشفوقاً علينا، فنتمكن وقتئذ من امتلاك الخيرات التي وعدنا بها بنعمة هذا المخلص ومحبته للبشر الذي له المجد والعزة والشرف مع الآب والروح القدس الآن ودائماً وفي دهور الدهور آمين