القدّاس الإلهيّ ومعانيه

القدّاس الإلهيّ – مفاهيم

يسألون متى نقف, متى نجلس. هناك جواب في المبدأ وهناك جواب في الواقع. من حيث المبدأ: لم يكن هناك عند الأرثوذكسيين مقاعد قبل خمسين سنة. كانت هناك بعض الكراسي حول الجدران يتكئ عليها الشيوخ اتكاء ويجلسون عليها أثناء تلاوة الرسائل.
فصورة الأرثوذكسي في صلاته صورة المسيح القائم من الموت والصاعد الى السماء. ولا تزال كنائس روسيا حتى اليوم خالية من المقاعد ويبقى الإنسان على ما تربى عليه.اما وقد ضعفت الهمم وقلدنا الآخرين فصرنا نجلس الا في تلاوة الإنجيل والكلام الجوهري والذي يقال له في التعبير اللاهوتي قانون الشكر ويبدأ من ” نعمة ربنا يسوع المسيح ” حتى آخر الاستحالة فإذا سمع المؤمنون ” وخاصة من اجل الكلية القداسة” جلسوا.
ثم يقفون من جديد عند الصلاة الربية وأثناء المناولة حتى الختام. كذلك يقفون عند التبخير وكلما سمعوا “السلام لجميعكم” وبعامة كلما قيلت عبارات التبريك مع رسم الكاهن إشارة الصليب عليهم.

من الواضح ان الفهم هو المناخ الأساسي حتى لا يتضجر المؤمن. والفهم يأتي من تفسير الخدمة الإلهية وعندنا كتب حولها. والانتباه يزداد بالوعي والأشياء لا تُملى على الإنسان إملاء ولكنه يلتقطها التقاطا. وما يزيد الوعي ان نتابع القداس بنصه المنشور حتى لا تفوتنا كلمة ولا سيما ان أهم الصلوات تتلى سرا فلا يسمعها الناس. ولم يكن هكذا في البدء ولا يعلم العلماء على وجه التأكيد لماذا تُقرأ الافاشين بصوت منخفض. ومن لا يتابعها كما نُصّت لا يستطيع ان يفهم وحدة القداس وترابطه.
نحن لم نبقَ اليوم في حضارة سماعية بل بتنا في حضارة بصرية ونريد ان نقرأ ولا سيما ان اللفظ قد يكون سيئا او تكون الكنيسة خالية من هندسة صوتية. ان مسعى الحصول على كتب اتركه لمجالس الرعايا والمسؤولين الروحيين واصحاب الغيرة لأن كلمة الله إن فاتتنا يفوتنا الخلاص.
هناك مكملات أساسية لأداء صالح: جوق، طراوة في الصيف، دفء في الشتاء، صمت كامل نلتزمه، حشمة نرعاها. كل هذا يساعد على الاستيعاب وتاليا على السمو الروحي والتأهب للمناولة المقدسة.
ولعل سؤال الأسئلة هو لماذا قداسنا طويل؟ الحق انه ليس كذلك لأننا اذا أحسنا الأداء، كاهنا او جوقا، فهو لا يتجاوز الساعة الا اذا طالت العظة او كثر المتناولون. اما العظة عندنا فينبغي ان تكون قصيرة نسبيا لان القداس ليس مجالا للتعليم المفصل لكن لكشف الإنجيل وشد الحياة إليه. اما المناولة فقد كثُرت بسبب من عمق الفهم المتصاعد عند المؤمنين وتجدد إيمانهم وقوة حرارتهم. وهنا ينبغي ان ننتظر بعضنا بعضا.
والحقيقة ان الشعور بالطول يأتي من المعرفة القليلة او المحبة القليلة. والقداس ككل شيء نشترك به من أعماق النفس: انها تتهيأ لاقتبال الرب وتناجيه بالكلمة وتتحد به في القرابين. هذه عملية حب. ليس السر في التقصير او الإطالة. انه في عشقنا للمسيح او عدم عشقنا. وهذا يربى بالإدراك المتصاعد. فإذا الكلمات أُلصقت إلصاقا بالأذن وما استدعيناها نحن استدعاء وما استلذذناها تنشئ الشعور بالضجر. ولكن ان رحبنا بالمسيح تائبين إليه والى إنجيله وجسده ودمه فالقداس مكان للفرح.

قبل القداس

المشاركة الفاهمة المتحسسة في القداس الإلهي تقتضي استعدادًا له . قبل الدخول تهيؤ للدخول لأن القداس توبة كله فإرادة توبة، هذه يقظة “اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة” . من هنا أننا حسب التراث الصحيح نصنع خبزا في بيوتنا ليصير قرابين وذلك على أفضل ما يكون الخبز عليه فنتناول جسد الرب مما أعددناه . ومن هنا أننا في مساء السبوت نعتكف في منازلنا ولا نحيي سهرة طويلة متعبة مهدرة لقوانا وانتباهنا في اللهو واللعب والتبرج ، ومن هنا أننا نعفّ عشيـة الخدمـة الإلهية عن أزواجنا تدعيما لليقظـة الروحيـة وغير مفرطين في الطعام ، ولا نترك صلاتنا ونعكف على قراءة الكلمة الإلهية لنتقبل الله في الإنجيل قبل اقتبالـه في المناولـة .
ثم هناك استعداد طقوسي ؛ فالكنائس تقام فيها في السبوت وعشية الأعياد خدمة الغروب التي تجعلنا في جو القيامة او عيد القديس الذي به نحتفل . وفي الصباح تقام صلاة السحر وهي تحمل معنى القيامة او العيد ما لا نجده في القداس نفسه ، ومن المحزن ان معظم المؤمنين ترك الصلاة السحرية وهي مع الغروب والقداس تؤلف دورة واحدة متكاملة .
حياتنا مع الرب تأتي من ملاطفته ، فالقداس عرس فيه تصبح النفس مقترنـة بالمسيح. انه كمال الاتحاد وليس بعده الا الملكوت الإلهي ومعاينـة الرب وجها لوجه ، ولكن قبل اتحادنا بيسوع بالقرابين الإلهية هناك تآلف بيننا ينتج من كلامه الذي ينزل علينا بالرسالة والإنجيل . غير ان الشوق يدفعنا الى ان نقرأ في منازلنـا نص الرسائل والإنجيل وأن نمعن النظر فيها ولا سيما اننا نجدها في “رعيتي” . غير ان التبحّر يدفعنـا الى كلمات أخرى للرب فنطالع ونمعـن في المطالعة لتجديد المحبـة ، وننشد ونستمع الى الإنشاد فانـه خير طريق الى الفرح ، وهكذا اذا تشددت النفس تصير أكثر إصغـاء اذا حلّ الأحد واعظم مطواعيـة للدخول في العرس الإلهي .
وإذا ما قرأنا وانتقلنا بالشوق الى يسوع نصبح اكثر استعدادا لمعانقتـه بإخلاص وان نسلم لـه مقود النفس فلا ندخل الى الكنيسة الا والنفس ورعة متقبلـة للنعمة التي ترتجيها ، نكون قد عدنا الى المسيح قبل ان ندخل الى بيته، ذلك الذي نحس فيه اننا محضونون .
ولهذا تسلمنا من الأقدمين عندما نصل الى باب الكنيسة ان نقول مع صاحب المزامير: “ادخل الى بيتك واسجد في هيكل قدسك بخوفك يا رب أحيني ككلمتك” . تلك عبارة يرددها الكاهن اذا ترك صحن الكنيسة ليدخل الى الهيكل ، قبل ذلك يستعد امام الأيقونات للدخول وإذا ما قام بالدخول الصغير (الدورة الأولى) ووصل الى الباب الملوكي يتلـو: “مبارك هو دخول قديسيك كل حين الآن وكل أوان والى دهر الداهرين،آمين” . وكان في الطواف يقول:”اجعل دخولنا مقرونا بدخول ملائكتك كل حين …” .
هذا كله يعني ان ولوج باب الكنيسة او باب الهيكل إنما هو دخول الى خدر المسيح أي غرفة الزواج السري الذي يجمعنا بالرب ، ولذلك نرتل في الأسبوع العظيم :” إنني أشاهد خدرك مزينا يا مخلصي ولست امتلك وشاحا للدخول إليه فأبهج أنت حلة نفسي وخلصني” . هناك حلـة للعرس ناصعة نحتاج اليها، حلـة التوبة ، بدونها لا يعترف المسيح ان الشخص الداخل الى الكنيسة هو بالحقيقة طالب الرضاء الإلهي . من اجتاز عتبة الكنيسة حسنا يكون قـد صار من أحبـاء الرب ، هذا بدء الابتهاج وذروته في القبلة التي نتبادلها ويسوع “لا أعطيك قبلة غاشة مثل يهوذا” . القبلة صادقة اذا قلنا في أنفسنا من مساء السبت حتى نهاية القداس الإلهي: “ما احب الرجوع إليه” حتى اذا انتهت الخدمة نكون مشتاقين الى الأحد الآتي .

القداس الإلهي : الجماعة

هناك شيء يبدو بديهيا ان القداس لا يقام بلا ناس ، فانهم اذا اجتمعوا ليقيموا ذكرى القيامة يصيرون كنيسة ، ولهذا يقول بولس: “اذا اجتمعتم من حيث أنكم كنيسة وقعت بينكم انقسامات” (1 كورنثوس 11 : 8) وكأنه يقول كيف تجتمعون للمحبة وتتخاصمون؟ بالاجتماع حول الكلمة والقربان تنشأ الكنيسة، الأمة المقدسة . لذلك ليس هناك قداس “خاص” تطلبه عائلة لنفسها ؛ ما تلتمسه من رحمة ينزل عليها وعلى الجماعة ، وهنا تنفضح انحرافات بعض المؤمنين الذين يريدون قداسا و جنازا لا يذكر فيهما سوى ذويهم لا يعيش اي مسيحي وحده ولا يُذكر أحد بانعزال عن الأخوة ؛ نحن دائما معا . ولهذا لا يجوز ان “توصي” على قداس إحدى العائلات لتكون فيه وحدها ، انها تندمج بالطائفة المصلية في الخدمة المحددة .
كذلك لم تعرف المسيحية الأولى عمادة لعائلة بل كان يؤتى بالأطفال الى قداس الأحد يعمدون فيه وتفرح الرعية كلها بالمسيحي الجديد، هكذا الإكليل ما كان يُقام مع ذوي العروسين وأصدقائهم بل في قلب القداس لأنه فرح الطائفة كلها التي تتقبل العروسين في محبتها . الجماعة كلها تقيم المعمودية والعرس ورسامة الكاهن والأسرار كلها لأن من جسد الرب الذي نكون حوله تأتي النعمة على المؤمنين . ومن الادلة على ذلك انه في كتبنا الطقوسية يُسمى الكاهن متقدمًا اي متقدم الجماعة وكان يرتدي ثيابه في وسطها للدلالة على انها تنتدبه لأنها شريكة أصلية في إقامة الذبيحة . ولهذا كان العلمانيون يسبقون الكاهن الى الكنيسة حتى اذا كانوا مجتمعين يدخل ويسلّم عليهم ، ضد هذا المشهد المحزن عندما يقف الكاهن في الباب الملوكي ويقول: “السلام لجميعكم” وليس أمامه سوى الجدران إذ يتوافد المؤمنون في بدء الصلاة او منتصفها او عند الأواخر . الكاهن عندنا لا يقيم وحده الخدمة ، المعية أساسية ؛ فإذا قالت الجماعة “آمين” (اي ليكن) يأخذ كلام الكاهن مداه . كل أجزاء القداس تقوم على التبادل بين الراعي والرعية حتى اذا قال: “السلام لجميعكم” ترد إليه سلامه بقولها: “ولروحك أيضا” . وإذا رفع الكاهن الصلاة فلا يقول لله: أنا بل يقول: نحن ، ويقدم القرابين التي أتى بها الشعب . وإذا قال: “لنحب بعضنا بعضًا لكي بعزم واحد نعترف مقرّين” كان كل أعضاء الشعب – وليس فقط الاكليروس- يقبّلون بعضهم بعضًا ، نعترف كلنًا معًا بآب وابن وروح قدس . ولا يتناول الكاهن وحده بل في كل ذبيحة يتناولون جميعًا إذ يدعوهم “بخوف الله وإيمان ومحبة تقدموا” . ليس للكهنة امتياز بالمناولة ، انها حصة الجميع . المناولة يقال لها باليونانية شركة ، الجميع يقدم الذبيحة والجميع يشترك فيها .
وصحن الكنيسة الذي يقف فيه المؤمنون متجه الى المذبح ، والمذبح متجه الى الصحن . الهيكل ليس ذلك المكان المفصول بالايقونسطاس عن الصحن ، الأيقونات موضوعة لتجمع لا لتفرّق ، هي إطلالة السماء على الأرض . سر الجماعة ان اسم المسيح يوحدها مهما كان أعضاؤها خاطئين ، فإذا اجتمعوا باسم المسيح يكون هو بينهم بل يكون إياهم . ولذلك في بدء الكنيسة كان بولس يسمي كل المسيحيين قديسين بمعنى انهم مخصصون لله ، فإذا كنا معا في الكنيسة لإقامة سر الشكر نصبح قديسين ، القداسة تؤخذ من الجماعة التي ينشئها المسيح برحمته، بالتوبة التي يوحيها . نحن ليس عندنا هذه الفردية الفتاكة التي تجعل المؤمن يجيء او لا يجيء حسب نزواته ، نحن نجيء لنكون معا وإذا كنا معا يصير كل واحد منا قائما بالمسيح .
اما رأس الجماعة فهو الكاهن ، والمسيح يجعله رأسًا لجسد قائم، مجتمع . قد يكون الكاهن أول الخطاة في الرعية ولكنه يكشف كهنوت المسيح . هو الراعي ليس فيه كهنوت من نفسه ، انه يستمد كهنوته من المسيح ذلك الذي يمنحه الرب للجماعة . المسيح لم يفوض عن ذاته أحدا وليس الراعي “ممثلاً” للمسيح او نائبه على الأرض . الكاهن متحد بالسيد وبالجماعة بآن ، أول ثوب يرتديه في الخدمة هو “الإستيخارة” او القميص وهو قميص المعمودية الذي يلبسه الجميع . وإذا لبس البطرشيل فإنه يلبس قوة المسيح . وإذا لبس الكمّ على معصمه الأيمن فهذه يمين المسيح وإذا لبس المنطقة (الزنار) فهو يشير الى انه يتزنر بالحق ويتأهب للخدمة . وإذا ارتدى الأفلونية (الثوب الخارجي) فهو يحمل بهاء الكنيسة عليه ويشير الى مجد الملكوت .
وبعد هذا يغسل الكاهن يديه ليتطهر للخدمة ويتأهل لها ، وعند هذا يقول: “اغسل يدي بالنقاوة واحيط بمذبحك يا رب … يا رب أحببت جمال بيتك وموضع حلول مجدك” .
فإذا تطهر هو وصممت الجماعة على التطهر نبدأ “ذبيحة التسبيح” .

القداس: مباركة مملكة الآب

كل كنيسة فيها شماس أصلا . هنا أتمنى لو أعطتنا كل رعية شماسًا حتى تتوزع أجزاء الخدمة بينه وبين الكاهن، حتى يكمّل كل منهما دورًا له مختلفًا ؛ فمَن زكيتموه ليقوم بهذه الوظيفة واقتنعتم بمؤهلاته الروحية وقدرته على الأداء نستبقيه في أعمال الدنيا ويساعدنا هو في الآحاد . هذا يقف امام الباب الملوكي ويهتف للكاهن: بارك يا سيد . فالشماس هو الذي يحرك الفعل الطقوسي . عند ذاك يعلن الكاهن وهو امام المائدة: مباركة “مملكة الآب والابن والروح القدس الآن وكل آن وإلى دهر الداهرين” .
يكون الكاهن قد صعد درجات الهيكل ليقوم بخدمة الكلمة باسم المسيح من جهة ومندوبًا من الشعب من جهة أخرى . المائدة هي عرش الملك الإلهي والكاهن منتصب في حضرته ، يبدو على الأرض ولكن عين الرب تراه منتصبًا في السماء ، وإذا كان ماثلاً في حضرة الله يحمل معه الجماعة والعالم لأن القداس هو ارتفاع الكون كله . إذ ذاك، يعلن احتفاليًا ان: مباركة مملكة الآب … وكأنه يقول: ما نحن سجناء هذا العالم . هذا المعنى يتضح عندما يقول بعد الطلبة التي تلي الإنجيل: “ليس أحد من المرتبطين بالشهوات واللذات الجسدانية مستحقًا ان يتقدم إليك او ان يدنو منك او يخدمك يا ملك المجد” .
نحن الآن فوق المشاغل والهموم التي تعرقلنا في مملكة قيصر، نحن لا يتملكنا الجسد ومشاكلنا . نتحرر من هذه الدنيا المحدودة وزمانها الرديء. نخرج من أيام ستة كانت لنا مليئة بالمصاعب ومثقلة بالخطيئة لنقيم يوم الأحد حيث انبعث المسيح من الموت وكشف ان أباه ملك العالم . مملكة الثالوث القدوس أبدية ، الآن تتجدد أبديتها بقراءة الكلمة وتقديم القرابين ، نحن ندخل في ما كان قبل الخليقة، ندخل الى قلب الله ثم نرجو الحياة الأبدية حيث تكتمل مملكة الله .
هنا الخاطئ اذا اخطأ يجعل نفسه سيدًا ، كان لا يعترف بسيادة الله عليه ، فإذا قلنا: مباركة مملكة الآب نكون قد اعترفنا بأننا لا نريد ان تسودنا الخطيئة ، نشتهي ملكوت الله حالاً علينا لأن “ملكوت الله في داخلكم” . وقد تجلت مملكة الله عندما جاء الابن الإلهي في الجسد “وحلّ فينا ورأينا مجده” . هذا عهدنا لله ان نكون له وحده بعدما عاهدنا هو ان يكون لنا إلهًا بدم يسوع .
وإذا أعلنا ذلك ما نعنيه هو اننا اذا أحببنا سيادة الله علينا نحتفظ بهذه السيادة في إيماننا وأعمالنا ، نكون قد نوينا ان تكون الأيام السبعة الباقية لنا هي أيضا مليئة بالحضور الإلهي كما الكنيسة مليئة به . ثم نعود الأحد اللاحق ونستغفر الرب اذا كنا رفضنا امتلاكه لنا ونجدد العهد في بداءة الأسبوع ونكتسب حركية جديدة عالمين اننا “ما دمنا في الجسد فنحن متغربون عن الله” حتى يأتي المسيح ثانية وينقلنا بالقيامة الى ” ملكوت محبته” .
فالملكوت الذي ظهر عند الخليقة بسيادة الله على الكون لم يكن الكون عارفًا به حتى جاء الأنبياء وأعلنوا الله ملكًا على شعبه ، ولكن الملكوت لم ينتشر إلا بمجيء المخلص “توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات” . غير ان أفعال البشر السيئة هي نكران لسيادة الله ” ليس كل شيء خاضعًا له” . لكن اذا سلم المسيحُ الملك لله الآب في اليوم الأخير تصير البشرية المخلَّصة خاضعة له ، ذلك هو توقنا عندما نهتف: “مباركة هي مملكة الآب…” . وما نتوق إليه أيضا هو اننا نتمنى هذا الخضوع “الآن وفي كل آن” حتى تكتمل الأزمنة فنعلن عن رجائنا: “وإلى دهر الداهرين” اي في الدهر الآتي .
بعد هذا يقول الشعب (او الجوق) آمين اي ليكن . ومعنى هذا ان القداس الإلهي هو اننا نقيم الآن بين ملكوت الله الذي سطع في المسيح وهذا الملكوت إياه الذي يكتمل عندما ينتصر المسيح نهائيًا على الموت . المؤمنون عندما يذوقون الإنجيل وجسد الرب يضعون أنفسهم بين المجيء الأول والمجيء الثاني . قلوبهم مليئة بيسوع الذي جاء ومشتاقة الى كمال ظفره في اليوم الأخير .
وهذا الهتاف: مباركة مصحوب بأن الكاهن يأخذ الإنجيل بيديه ويرسم به إشارة الصليب على المائدة وكأنه يعلمنا ان الارتفاع الى الملكوت يكون بالصليب ، نحن نملك بالكلمة الإلهية وبالصليب ، ويتكرر المعنى نفسه بعد المناولة اذا قال الكاهن باسمنا جميعًا: “أيها المسيح … اعطنا ان نتمتع بك أجلى بيان في نهار ملكك الذي لا يغرب” . الإنجيل والقربان مشاركة بالملكوت في وجهه المعلن ووجهه المكتمل .

القداس : الطلبات

فورًا بعد “مباركة” يبدأ الشماس (او الكاهن إن لم يكن شماس) الطلبة السلامية الكبرى: “بسلام من الرب نطلب” . دُعيت كذلك لتأكيدها على التماس السلام . لماذا الطلبات؟ لأن الكتاب يقول: “أطلب أول كل شيء ان تُقام صلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس” (1 تيموثاوس 2 :1) . والطلب ممكن ومستجاب لكوننا في المسيح والمسيح هو “الوسيط الوحيد بين الله والناس” (1 تيموثاوس 2 :5) . أول ابتهـال : “بسلام من الرب نطلب” يعني اننا إذا أقمنا في سلام المسيح نقدر ان نرجو “السّلام الذي من العلى” حتى نصير معًا كنيسة الله . عند ذاك نطلب “من اجل سلام كل العالم وحسن ثبات كنائس الله المقدسة واتحاد الجميع” . ابتهالنا ان يحل السلام في العالم وفي إطاره تكون الكنائس ثابتة وكل منًا متحدًا بالآخر ، الوحدة الكاملة ممكنة في المسيح فقط .
” من اجل هذا البيت المقدس والذين يدخلون إليه بإيمان وورع” ، لا ينبغي ان ندخل هذا البيت بسبب العادة الرتيبة ولكن بإيمان متجدد. “من اجل المسيحيين الحسني العبادة الأرثوذكسيين” ، في البدء صلينا من اجل العالم كله واهم طلب من اجلـه ان يكون في سلام ، اما الآن فنخصص الأرثوذكسيين وهي كلمة يونانية تعني المستقيمي الرأي ، وأنا آسف ان هذا او ذاك في هذا المقطع او سواه يحذف كلمة “الأرثوذكسيين” كأن الواحد يستحيي بهويته وبانتمائـه الى الكنيسة الحافظـة للتعليم الصحيح .
“من اجل أبينا ورئيس كهنتنا (فلان) والكهنة المكرمين وخدام المسيح (اعني الشمامسة ) وجميع الاكليروس والشعب” . هؤلاء اذا كانوا بعضًا الى بعض هم جسد المسيح . ذكر المطران يدل على اتحاد الجماعـة بالأسقف المتحد بدوره بكل الأساقفة الأرثوذكسيين . الانتماء الى الأسقف الشرعي شرط لقيام الخدمة الإلهية ، لذلك لا يجوز ان نصلي وراء كاهن مجرد من الكهنوت او موقوف عن الخدمـة .
“من اجل حكّّام هذا البلد وموآزرتهم في كل عمل صالح” ، هذه هي الصيغة التي أريد الكل ان يعتمدها عندنا ، لقد حذفنا الطلبة المتعلقة بالملوك الحسني العبادة اي أباطرة القسطنطينيـة لأنهم زالوا من الوجود منذ خمسة قرون ، ولا داعي لأن نقول “الحكّام الحسني العبادة” لكوننا لا نعيش في إمبراطورية أرثوذكسية ؛ فكثيرًا ما يكون الحاكم من خارج كنيستنا او يكون غير مسيحي ، الكنيسة الأولى كانت تصلّي للملوك الوثنيين كما أوصى بذلك العهد الجديد .
من بعد هذا نصلّي من اجل المدينـة التي نحن فيها ومن اجل اعتدال الاهويـة ومن اجل ثمار الأرض والمسافرين والمرضى والمهجرين اذا بقي التهجير ومن اجل المرضى والأسرى لأننا نحمل هم العالم كلـه، نبتهل لكي نرفع الكون كلـه الى الله ولا يبقى كل منا سجين طلبـة من اجل نفسـه وعائلتـه .
بعد كل طلبة يرتل الجوق: “يا رب ارحم” ليعني ان ما نسأل اللـه يأتينا برحمة منـه ، هنا نتمنى على المرتل الأول في كل كنيسة ان يدرب الشعب على المساهمـة في الترتيل .
وأخيرًا نذكر والدة الإله وجميع القديسين الذين يشاركوننا في الملكوت صلاتنا “ونودع أنفسنا وبعضنا بعضًا المسيحَ الإلـه” ، نسلم حياتنا ليس فقط بمعناها البيولوجي ولكن بمعناها الروحي الى المسيح .
مع نهاية السلامية الكبرى يتلو الكاهن أفشين الانديفونا الأولى . أفشين تعني صلاة ، والانديفونا هي الترتيل بالتناوب بين جوق اليمين وجوق اليسار ، تتضمن في الأعياد آيات من المزامير تناسب المقام تقاطعها “بشفاعة والدة الإله يا مخلص خلصنا” .
بعد الانديفونا الأولى طلبة صغرى: “أيضا وأيضا بسلام” وتنتهي كما السلامية الكبرى بذكر والدة الإله والقديسين . ويتلو الكاهن أفشينا بصوت منخفض ينتهي بالإعلان: “لأن لك العزة ولك الملك والقدرة والمجد …” في الماضي كل الصلوات المدعوة “أفاشين سرية” كانت تتلى بصوت عال، والآن أتمنى على الكهنة ان يعودوا الى الممارسة القديمة ليفهم الشعب كل شيء . وترتيلة الجوق تكون: “خلصنا يابن الله يا مَن قام من بين الأموات” وذلك في الآحاد ، وفي أيام الأسبوع: “خلصنا يا ابن الله يا مَن هو عجيب في قديسيه” ، تلك هي الانديفونا الثانية .
واخيرًا الافشين ينتهي بالإعلان: “لأنك إلـه صالح ومحب للبشر” ، ثم طر وبارية الأحد او العيد او القديس الذي نعيد لـه . والطروبارية أنشودة تتضمن معاني القيامة في الآحاد او العيد او تتعلق بسيرة القديس . بعد هذا يأخذ الكاهن الإنجيل او يحملـه الشماس إذا وُجد ليقوما بالدخول الصغير الذي تسميـه العامة الدورة الصغرى .

الدخول الصغير

لا تُفهم وظيفة الدخول الصغير (بالعامية الدورة الصغيرة) الا في الكنيسة القديمة عندما كان هذا الدخول بدء الخدمة، هو دخول الشعب والكهنة معا من الخارج من بعد طواف في المدينة. وإذا لم يكن طواف يكونون قد تجمعوا في الخارج والكاهن يكون حاملا الإنجيل ، الشعب كله يصبح صفا واحدا بسبب إخلاصه للإنجيل وبسبب وعيه ان هذا الإنجيل هو الكلمة كلها .
الكاهن يقول شيئين: “مبارك هو دخول قديسيك كل حين…” والمراد بالقديسين المؤمنون جميعا ، ويكون قد هتف بالناس : “الحكمة فلنستقم او فلننتصب”، قد جاءتكم الحكمة بهذا العهد الجديد فاستقبلوها واستقيموا لتسيروا وراءها ، الآن وقت استعداد لندخل معا الى ملكوت اللـه ، تصاعدوا على درجات هذا الإنجيل الذي بين يدي . وإذا وُضع الإنجيل على المائدة فلكي يمحصنا ويديننا ، فليراجع كل منا نفسه من خلال الكلمات التي يطهرنا المسيح بها . المائدة المقدسـة ترمز الى عرش الله ، كل شيء في هذا العالم وفينا لا يعلو الا اذا علته الكلمـة الإلهية .
نعود إذاً من العالم، من السقوط كل يوم اذا تربينا على هذه الكلمة. ولهذا نترجمها الى تلك الأناشيد القيامية يوم الأحد التي نسميها طر وباريات وقنداق ، واما في أيام الأسبوع فالأناشيد تتحدث عن القديس الذي نعيّد له في ذلك اليوم. والقديس ثمرة الإنجيل ، انسان عاش بموجبه فصار إنجيلا حيا .
بعد هذه الترانيم نرتل النشيد المثلث تقديسه : “قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت” ؛ هذا تطلع الى الثالوث كما سيتجلى لنا في اليوم الأخير ، الآن نعلن قداسة الله الأعلى منا ومن الوجود ، نرجو هذا المجد كما سيُعلن في القديسين في الحياة الأبدية .
هذا النشيد يرتله الجوق ثلاثا ثم المجد للآب… الآن وكل آن… قدوس الذي لا يموت واخيرًا ينشد بقوة: قدوس الله… الخ . لقد جاء هذا الكلام عند اشعيا أول ما جاء هكذا: “قدوس قدوس قدوس، رب القوات، الأرض كلها مملوءة من مجده”، هذا لما رأى النبي “السيد جالسًا على عرش عالٍ رفيع، وأذياله تملأ الهيكل” .
في هذه الأثناء يتلو الكاهن صلاة النشيد المثلث التقديس ومنه: “يا مَن أهلتنا نحن الأذلاء غير المستحقين ان نقف في هذه الساعة امام مجد مذبحك المقدس وان نقدم لك السجود والتمجيد المتوجب لك ، أنت أيها السيد تقبل من أفواهنا أيضا نحن الخطاة التسبيح المثلث التقديس… لأنك قدوس أنت يا إلهنا…” .
الإيمان الأساسي الذي تبنى عليه كل صلاة ان الله قدوس والقداس يكشف لنا ذلك ، كل حركة في العبادة رفع أيد كانت أم انحناء، كل حركة قائمة على هذا اليقين ان الله مصدر القداسة وان عطشنا الحقيقي اليها .
في الخدمة الإلهية لا بالعقل نذوق هذه الحقيقة ، انها رعدة وارتعاش امام العظمة الإلهية، امام طهارة الرب الذي لا يدنى منه ، مع ذلك رجاؤنا اننا مدعوون الى المشاركة في قداسة الرب بالكلمات والألحان والشموع والبخور، بكل ذلك نذوق قداسة الرب وكأن كل ما في الكنيسة ملامح وجهه المبارك .
لقد دخلنا وانتصبنا امام الحضرة الإلهية وتقدسنا بها ، وإذا كان الأسقف رئيس الخدمة فعند أواخر النشيد يطل على المؤمنين من الهيكل حاملاً بيمناه شمعات ثلاثًا للدلالة على الثالوث وبيسراه شمعتين ترمزان الى طبيعتي المسيح الإلهية والإنسانية ويبارك الشعب ثلاثًا بكلام من المزامير “يا رب يا رب اطلع من السماء وانظر وتعهد هذه الكرمة واصلحها التي غرستها يمينك” المجتمعون كرمة الله، كنيسته ، يحتاجون الى إصلاح من الله بعد ان أعلنوا قداسته .
ثم يلتفت رئيس الخدمة الى المذبح الذي سوف تعد عليه الذبيحة وهو الى يسار الهيكل ويقول: “مبارك الآتي باسم الرب” اي المسيح الذي سوف يأتي إلينا بكلمته وجسده واخيرًا يتجه الى الكاتدرا العالية وهي كرسي الأسقف وراء المائدة على الحائط الشرقي ويقول مستعينًا بعبارات من اشعيا وسفر الرؤيا: “مبارك أنت على عرش مجد ملكك أيها الجالس على الشاروبيم كل حين…” وهنا تتم حركة الصعود ويتجه الكاهن إلينا بتحية السلام لنؤهل لاستماع كلمات العهد الجديد .

الرسالة والإنجيل

قديما كان عندنا قراءة للعهد القديم في القداس ، نقتصر الآن على الرسالة والإنجيل. في البدء لم يكن الإنجيل يُتلى من الهيكل ، هذا مخصص لخدمة القرابين . اما القراءات فكانت تتم في صحن الكنيسة، فيما الشعب يحيط بالاكليروس وهذا له فيـه موضع يسمّى “فيما” ، كان يُرتل مزمور قبل الرسالـة ، يُكتفى الآن بآيتين او ثلاث من المزامير . المزامير صلاة المسيح والكنيسة، يتلوان هذا الكتاب معا وهو قلب العهد القديم ، هذه الآيات من المزامير تدعى باليونانيـة ” بروكيمينون” اي ما هو موضوع قبل النص .
الرسائل تتلى حسب ترتيب موضوع على طريقة القراءة المتصلة بحيث تتلى مثلا الرسالة الى أهل رومية في موسم معين وغيرها في موسم آخر ، ولكن الفصل الذي يتلى يوم الأحد محدد حسب ترتيب هذا الأحد من العنصرة او من عيد رفع الصليب فتمر كتابات بولس وبقية الرسل الذين كتبوا رسائل كلها مرة في السنة .
وبعد التلاوة يرتل شيء من المزامير ويصير التبخير، ولكن لا يقال اي شيء من المزامير اليوم بعد الرسالة حتى اضطررنا الى تقديم التبخير الى وقت الرسالة مما يعرقل أحيانا فهمها . لقد اقتبسنا التبخير من الوثنية ، ليس في ذلك مانع ، ليست كل الوثنية خطأ ، فيها هذه التقدمة “الطبيعية”: الجمر والبخور الذي يتصاعد الى الله مع الصلاة حسب قول داود: ” لتستقيم صلاتي كالبخور أمامك” .
بعد الرسالة ( في الممارسة الحالية أثناء ترتيلها) تتلى قبل الإنجيل هذه الصلاة : “أيها السيد المحب البشر اشرق في قلوبنا بالنور الصافي نور معرفتك الإلهي وافتح أعين ذهننا لفهم تعاليم إنجيلك ، ضع فينا خشية وصاياك المغبوطة حتى اذا وطئنا الشهوات الجسدية نسلك سلوكا روحيا فنفتكر بكل ما يرضيك ونعملـه لانك أنت إنارة نفوسنا وأجسادنا” ، إذ لا نستطيع ان نفهم الكتاب الا اذا نزل علينا الروح القدس ، هو يحوّل الكلمات الى داخل النفس فيطهرها لتتوب إليه وتقتبل القرابين .
الإنجيل يقرأ ايضا بصورة متصلة من أول كلمة فيه الى آخر كلمة بحيث نسمع الأناجيل الأربعة مرة في السنة لو اشتركنا في القداس كل يوم وذلك ابتداء من إنجيل يوحنا يوم الفصح ، غير ان فصل الأحد يأتي حسب ترتيب موضوع، فيأتي مثلا إنجيل السامرية او المخلع او السامري الشفوق حسب موضع الأحد من الفصح او من العنصرة .
منذ قرون – وليس في البدء – صارت الرسالة تُنغّم تنغيما وكذلك الإنجيل لنعلن فرحنا بالخلاص، لنحتفل بالخلاص . في الواقع بسبب من التلحين المطول لا تفهم كل الكلمات ، ولذا ينطرح السؤال : هل يجب ان نعود الى التلاوة البسيطة ؟ هنا وهناك جربنا ذلك بالرسائل فاتضحت للمؤمنين. لا شيء في القانون يمنع ان نستعمل لحنا بسيطا لا يغيّب الكلمات ، والحقيقة ان العهد الجديد يجب درسه في البيت أولا وحفظه بحيث نتذكره اذا تلي علينا في الخدمة .
بعد التلاوة تأتي العظة ، هذا مكانها وليس قبل المناولة او في نهاية القداس ، ذلك اننا اذا رفعنا القرابين وقدسها الروح الإلهي نكون قد بلغنا الذروة ولا يبقى مكان للوعظ . وظيفة الوعظ لا تقوم بالبلاغة ولا هي بسط حقائق إيمانية عامة ، التعليم المنتظم المنسق يكون في السهرات الروحية ، في صفوف المدارس ، في المحاضرات، في الكتب . العظة متصلة مباشرة بالإنجيل او بالرسالة بحيث ينسكبان بقوة الروح في قلوب المؤمنين ليتبينوا ان الإنجيل يخاطبهم ، يدعوهم الى التوبة، فيكون الواعظ مرتفعا بالروح وينزل الروح على الجماعة لينقل اليها الكلمة .
الجماعة تتناول الكلمة تناولا، تتحول فيهم الى نعمة . فكما ان الخبز والخمر يتحولان بالروح القدس الى جسد الرب و د مه ثم يتناولهما المؤمن فيصبحان روحه هكذا الكلمة متى تقبلناها واطعناها تصير فينا ثمر الروح الإلهي .
ولهذا لا تكون الكلمة تفسيرا علميا ، والوعظ بخلاف ما تقوله العامة ليس شرحا للإنجيل وان اقتضى معرفة الشرح عند الكاهن ، ولكنه قذف الكلمة في قلوب السامعين . فالكاهن مؤهل بتقواه وطهارته ان يلتقط الإنجيل ويضعه في قلوب الأحبة، طبعا هذا يتطلب منه استعدادا علميا، ولهذا لا نرتجل العظة ارتجالا ، هناك تدريب لاهوتي أساسي . الكاهن يهيئ العظـة خلال يومين او ثلاثـة ، يدرس شيئا من التفسير في حواشي الكتاب المقدس وفي المداخل ويطّلع على العقيدة الأرثوذكسية . ومن هنا ان الكاهن الغريب عن كل معرفة يجب ان يمتنع عن الوعظ ، واما الكاهن المبتدئ فليكتب العظة كتابة ويعرضها على الأسقف او كاهن مثقف لاهوتيا ، لا يقل اي ما يمر بخاطره لأننا نطلب كلمة اللـه لا ما يجول في خيال الواعظ .
الوعظ هبـة ولكن الهبـة تُصقل صقلا ، ما من شيء عظيم يقال الا بشرطين : ان تكون النفس ملهمـة إلهاما من فوق وان يتمرن الموهوب تمرينا بشريا حسب قواعد الخطابة .
هذا لا يعني ان اللغة الفصحى ضروريـة ولكن الفهم الروحي ضروري ، مع ذلك فليتعلم الكاهن الفصحى اذا كانت رعيته تريدها. يبقى ان الوعظ ليس ترجمة النص الإنجيلي الفصيح الى اللغة العامية ولكن الى القلوب ، وهذا يتم بلا صراخ . الحماسة ليست الصراخ ، ويجب تجنب التوبيخ الا ما قـلّ منـه ولكن برأفة ورحمة ، والهدوء دائما افعل . الوعظ ليس مكان الانفعالات ، فالمهم الا يكون الكاهن مشحونا ببغض أحد فليس الوعظ مكانا للانتقام ، انه إيجابي، بنّاء، محب، رصين لا يقوم على الحكاية ولا هو رواية أخبار ، انه الكلمة الإلهية نفسها محمولة على أجنحة الروح .

التقدمة

بعد تلاوة الانجيل لم يبقَ لنا في الممارسة الانطاكية الا طلبة صغرى تنتهي باعلان: حتى اذا كنا محفوظين بعزتك… قبلا كان لنا طلبة الموعوظين الذين آمنوا ولكنهم لم يتقبلوا المعمودية لأن تعليمهم ما كان اكتمل ، ندعوهم الى الخروج من الكنيسة اذ لم يكن لهم حق في المناولة والقداس للمناولة، ويبقى المؤمنون وحدهم . ولهذا لا معنى لدعوة غير المؤمنين – بسبب الصداقة او تذكار ميت – الى القداس الإلهي . ومن الواضح اننا قبل الشروع بالكلام الجوهري نقول : “الأبواب الأبواب” وهذا نداء للإپوذياكون (وهو شماس الشمعة عند العامة) ليغلق الأبواب كلها حتى يذوق جسد الرب المؤمنون الذين هم على العقيدة المستقيمة الرأي .
خلال طلبة الموعوظين (واليوم مباشرة بعد الانجيل) يفتح الكاهن الأنديمنسي على المائدة. الكلمة تعني بديل المائدة اذ يمكن نقله الى بيت او مخيم اذا كان من الضرورة إقامة القداس خارج المعبد، هو مربع من قماش مرسومة عليه أيقونة السيد في القبر والمطران الذي يكون قد كرّسه يضع توقيعه عليه، وأحيانا توضع في بطانته بقايا قديسين . أهميته انه علامة اتصال الرعية بأسقفها .
في الماضي السحيق كان الأسقف وحده يقيم الخدمة وحوله الشيوخ او الكهنة ، ولما تعددت الرعايا فكر الأساقفة ان ينتدبوا اليها الكهنة ، الرعية طبعا جزء من كل ولا تكتمل الكنيسة الا بائتلاف الرعايا تحت إشراف الأسقف . والأسقف وظيفته الأساسية ان يحمل الكنيسة الجامعة ومن هذا المنظار ان يحول دون انغلاق الرعية على نفسها فيتصرف البارزون فيها كأنهم أصحاب الحل والربط . الأنديمنسي صار العلامة المنظورة لاتحاد الرعية المحلية بمطران الأبرشية .
وتأسيسا على هذا يكون الكاهن مندوب المطران، على صلة دائمة معه ليستقيم فكر واحد وتظهر محبة واحدة ولا تصير الرعايا “مزارع” لهذا او ذاك من النافذين فيها ، والعلمانيون المفوضة إليهم بعض المسؤوليات هم وكلاء المطران ويلازمون حدود وكالتهم .
بنهاية الإنجيل والطلبات كانت في القديم تتم التقدمة او إعداد القرابين على المذبح ، وتسمية الطلبة في بلادنا تجاوزا “الذبيحة” تسمية خاطئة لأن الذبيحة تتم بالاستحالة . منذ عدة قرون تتم التقدمة أثناء صلاة السحر لكونها صارت مع الزمن تستغرق وقتا طويلا . ولكن الوقت الأصلي هو انها تكمل بعد الإنجيل لأننا لا نتعاطى القرابين الا بعد ان تنتهي خدمة الكلمة؛ واليوم اذا رئس الأسقف الخدمة ينهي التقدمة في هذا الوقت . الممارسة القديمة ان المؤمنين بعد الإنجيل كانوا يأتون بالخبز والخمر ويوضعان على الصينية وفي الكأس، والمذبح كان في حجرة خاصة الى يسار الهيكل ، يتقبل الشمامسة من المؤمنين هذه المواد وترتب في هذه الحجرة وتستر القرابين ليصير نقلها الى المائدة من الباب الملوكي ، كانت هناك ضرورة هندسية للقيام بالدخول الكبير (الدورة الكبرى) .
كان المؤمنون يأتون بكل عطاياهم : بالمال لإعالة الكهنة والأرامل واليتامى وبالخبز والخمر. جمع الصواني اليوم أثناء الذبيحة ممارسة لاحقة والذبيحة ليست الإطار للتفكير بالمال ، الأموال تعطى قبل ذلك لتحمل معنى التقدمة تماما كما هو الخبز والخمر .
طقس التقدمة بإيجاز يبدأ بكشف الأواني المقدسة وبوضع قربانه مربعة واحدة يقال لها الحَمَل او الجوهرة طبع عليها بالحروف اليونانية : يسوع المسيح الغالب وهي التي منها نتناول ثم يسكب الخمر والماء في الكأس ، بعد هذا يُقتطع من قربانة ثانية مثلث يمثل والدة الإله ويوضع على يمين الحمل ثم على يساره تسعة مثلثات ، وعند وضع كل مثلث يُذكر قديسون بأسمائهم . من بعد هذا تقتطع أجزاء صغيرة من بقية القربانات لتوضع تحت الحمل اذ يأتي كل مؤمن بلائحة بأسماء الأحياء ولائحة أخرى بأسماء الراقدين فيقتطع الكاهن بالحربة جزءا صغيرا من الخبز ويضعه على الصينية اذ يذكر كل اسم . وعند الانتهاء من مناولة المؤمنين ينزل هذه الأجزاء من الصينية الى الكأس لتمتزج بالدم الإلهي الذي يكون لأصحابها ينبوع نعمة ، ثم تستر القرابين فيما تتلى صلوات حتى يتم الدخول الكبير.

الدخول الكبير

الدخول الكبير (الدورة الكبيرة) هو مجال المجد ، يتهيأ له رئيس الخدمة بصلاة مهيبة اذ يقول:” ليس أحد من المرتبطين بالشهوات واللذات الجسدانية مستحقا ان يتقدم إليك او يدنو منك او يخدمك يا ملك المجد” . يعرف الكاهن ذله ومع ذلك بنعمة الله يدنو من المذبح الأرضي ليقدم ذبيحة يرفعها السيد نفسه الى الآب ، ثم ينطلق التسبيح الشيروبيمي (الشاروبيكون) يتلوه رئيس الخدمة ويرتله الجوق اذ يقول للشعب:”أيها الممثلون الشاروبيم سريا والمرنمون التسبيح المثلث تقديسه للثالوث المحيي لنطرح عنا كل اهتمام دنيوي لكوننا مزمعين ان نستقبل ملك الكل تحف به المراتب الملائكية بحال غير منظورة ، الليلويا، الليلويا، الليلويا” .
الترنيمـة بسبب الإيقاع الموسيقي البطيء لا يفهمها الأكثرون ولا سيما اذا رتلت باليونانيـة ، اما محتواها فهو دعوة الى التوبـة تقيمنا في حضرة الثالـوث المقدس . هذا كان مرة أولى عند قدوس الله، قدوس القوي… وهذا سيكون في الكلام الجوهري : قدوس ، قدوس، قدوس رب الصباؤوت… في الحالات الثلاث دعـوة الى المجد . والحضرة الإلهية نشير اليها بالتبخير.
ويلح الكاهن على التوبـة المهيئة للدخول بتلاوتـه أثناء التبخير المزمور الخمسين (ارحمني يا الله) .
بعد هذا يقبِّل الكاهن او الأسقف الانديمنسي على المائـدة وينحني امام الشعب مستغفرا ثم يتجه الى المذبح فيستغفر الله ثم يقبِّل القرابين قائلا: “قدوس الله الآب، قدوس القوي الابن المساوي له في الأزليـة، قدوس الذي لا يموت الروح المعزي…” . هنا ايضا يتصاعد الى قداسـة اللـه ثم يرفع الستر عن الأواني ويضعـه على كتفه او كتف الشماس قائلا: “بسلام ارفعوا أيديكم الى الأقداس وباركوا الرب” وكأنـه لا يستطيع ان يحيد عن لغـة الارتقاء فيسلم الشماس الصينيـة او يحملها ان لم يكن شماس ثم يحمل الكأس قائلا: “صعد الرب بتهليل، الرب بصوت البوق” . الفكرة الشاملـة ان السيد بتقديم نفسه ذبيحـة على الصليب يصير ملك المجد .
يحمل الكاهن او الشماس ليس الملك بل صورة الملك (خبزا وخمرا) ويسير نحو المائدة طائفا حول الكنيسة قائلا:”جميعكم ليذكر الرب الإله في ملكوتـه كل حين…” وكأنـه يقول: ان الرب اتخذكم جميعا فإن أسماءكم قد ذُكرَت ، وسمي كل منكم على جزء من القربان ، انتم الواقفين في صحن الكنيسة مرفوعون مع الحَمَل الإلهي ، الله نفسه يذكركم ولعل بعضا منكم كان في الدنيا منسيا . وإذا ذكركم الله في ملكوتـه فإنـه يهيئ لكم فيه مكانا وستذوقون مكانكم فوق ان انتم دنـوتم من المائدة الإلهيـة .
وإذا وصل الكاهن الى الباب الملوكي فعادة بلادنا ان يذكر بعض الأسماء الذين سبق وذكرهم على المذبح ، انها عادة مستحدثة لا قيمة لها من الناحية الروحية لأن هذه الأسماء ذُكرت على المذبح . كيف دخل هذا التقليد في العصور الحديثة ؟ لعل السبب كان الرغبة في دعوة المؤمنين الى الصلاة من أجل هؤلاء الأحياء والراقدين ، ثم اختلط المجد الباطل بكل هذا وسمعت الأقوال الصبيانية : لماذا ذكرت هذا وأهملت ذاك ؟
غير ان الـذكر الذي يـتـم على المـذبـح يكشـف لنـا ان الأحيـاء والأمـوات واحد في المسيــح بعـد ان أحيانـا جميعــا بموتـه وقيامـتـه . معـا نـدنـو مـن مائـدة الخلاص ونعلـن ان الحاجـز المظنـون قائما بـين الأحيـاء والراقـديـن قد سقط .
وإذا كان الأسقف مترئسا يذكره الشماس او الكاهن فيستلم الأواني المقدسة ويذكر البطريرك والمجمع المقدس تعبيرا عن الوحدة الأرثوذكسية التي تظهر في كوننا نصير “جسدا واحدا لأننا نشترك كلنا في هذا الخبز الواحد” (1 كورنثوس 10 : 16 و 17) .

بدء الكلام الجوهري

بعد وضع القرابين على المائدة الطلبـة “من أجل القرابين” والتهيـؤ لرفعهـا: “اجعلنا كفؤا لان نقدم لك قرابين وذبائح” ، ثم “لنحب بعضنا بعضا” التي كانت إيذانا بإعطاء قبلـة السلام إذ كان الاكليروس يسلم على الأسقف والرجال يحيّـون الرجال والنساء النساء . المحبـة المعبَّـر عنها فعليا بقبلـة تزيل الفوارق الاجتماعيـة القائمـة بين أعضاء الرعيـة. الكنيسـة هي المكان الذي ليس فيـه غريب .
لا يُفهم هذا النداء: “لنحب بعضنا بعضا” الا اذا قرأنا قول الكاهن وقـول المرتـل جملة واحدة هكذا: “لنحب بعضنا بعضا لكي نعترف، بعزم واحد، مقرين بآب وابن وروح قدس ثالوثا متساويا في الجوهر وغير منفصل” . القول يتضمن شيئين: اعترافـا بالثالـوث ومحبـة تؤهلنا الى هذا الاعتراف وكأن الكنيسة تقول : إنكم تصيرون بالمحبة إنسانا واحدا وهو الذي يعترف بالله ، لا شك ان ما تعطيـه إيانا النعمة هو أولا الإيمان ثم اذا تأصلنا في الإيمان ندرك “مع جميع القديسين ما هـو العرض والطول والعلـو والعمق” ( أفسس 3 : 18 و 18) . المعنى أننا لا نصل الى الحكمة الإلهية الا اذا كنـا مع جميـع المؤمنـين قلبا واحدا او عزما واحدا.
اليـوم اذ يتبادل الكهنــة القبلـة السلاميـة يقول الأول للآخر: “المسيح معنـا وفيما بيننا” فيجيب الثاني: “كان وكائـن ويكـون” ثم يعلـن الشماس: “الأبـواب، الأبـواب” إيذانـا بإقصاء الموعوظين القدامى فيخرجون ويتلو المؤمنون معا دستور الإيمان: “أومن بإلـه واحد…” . وقد أدخلت هذه التـلاوة في القـرن السادس وما كان الدستـور يُتـلى الا في خدمـة المعموديـة . هذا يعني ان وحدة الإيمـان هي شــرط الانتسـاب الى الكنيسـة وشرط المناولــة ، اذ يجتمع المؤمـن الى المؤمـن ولهذا لا يقبــل في القـداس الا أصحاب الرأي المستقيـم. لقد ضاع هذا المفهـوم في العصـور المتـأخـرة اذ صار النـاس ينظـرون الى المنـاولـة على انها تقديس الإنسان لنفسـه ، المفهـوم القديم اننا نصبـح فـي القـداس كنيســة واحدة .
دستور الإيمان يؤكد اننا نجيء مما كشفـه اللـه لنا ، إيماننا بكلام اللـه يجعلنا ننتظر الخبز الذي ينزل علينا من السماء .
عند ذاك يقول الشماس: “لنقف حسنا، لنقف بخوف، لنصغ لنقدمَ بسلام القربـان المقدس” . هذا هو بدء الكلام الجوهري المسمى باللغـة اللاهوتيـة القانون الشكري (بالنسبـة الى سر الشكر) . عبارة “الكلام الجوهري” لا تعني ان ما سبق ثانـوي ولكن ان هذه المرحلـة هي الأهم لأن فيها الاستحالة حيث الخبز يصير جسد المسيح والخمر دم المسيح وهذا على مدار الكلام الجوهري وهو غير مرتبط بوقت محدد بحيث لا يقال ان الاستحالة تبدأ بلحظة معينة .
بعد “لنقف حسنا” عندنا ثلاث كلمات لرئيس الخدمة وثلاث كلمات من الرعية، أولاها “نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس لتكن معكم جميعا” وهي مأخوذة من الرسالة الثانية الى كورنثوس 13 : 13 انها تأكيد وسلام، تأكيد على ان وجودنا في المسيح مؤسس في محبة الآب الأزلية وأننا نعطى هذا الوجود نعمة من الروح ولأننا نؤمن بهذا ننال سلاما يعيدنا الى الله ، والجوق يجاوب : ومع روحك . نحن ندعو للكاهن لينال النعمة نفسها.
الكلمة الثانية : ” لنجعل قلوبنا فوق” ، ذلك ان “حياتنا مستترة مع المسيح في الله”.
ليس هناك للإنسان صعود بل لله نزول “ما لي وللسماء عندما أتأمل في المعلم السماوي، عندما أصير أنا سماء” (القديس يوحنا الذهبي الفم) . ويجيب الجوق : “هي لنا عند الرب” . السؤال الذي يفرض نفسه على كل مؤمن هو هذا : هل أنا حقا متجه الى المسيح، الى العالم الثاني أم لا أزال سجـين الأرض ؟ والكلمة الثالثة : “لنشكر الرب” ، والجواب: “انه لحق وواجب ان نسجد للآب …” ، المؤمن بعد ان رأى نفسه مدعوا الى رؤيـة وجه الله يصير في حالة الشكر ، الشكر هو بدء العودة .

صلاة الشكر

القداس كما هو مؤدى اليوم لا يسمع المؤمنـون أهم ما فيه ولا يلاحظون وحدـته واللحمـة بين أجزائـه ذلك انـه منذ مدة طويلـة لا نعرفها بالدقـة صار الكاهن يخفض الصوت في قراءتـه لنصوص أساسيـة سميت فيما بعـد “الافاشين السريـة” وما عاد المؤمنـون يسمعـون الا ما يعرف بالإعلان فيقال مثلا: “الكاهـن يقول سرا هذا الافشين : بحق وواجب نسبحـك ونباركك”، وعند نهايته يقال: “والكاهن يعلـن قائلا : بتسبيح الظفر مترنمين وهاتفـين وصارخـين وقائلـين” . ومن الواضح ان هذه الجملـة مفصولةً عن الصلاة “السريـة” غير قابلـة للفهم ما لم تكن متصلـة بما سبقها .
طبعا لا شيء يمنـع مـن ان نعـود الى التقليد القديم فنقرأ كل شيء جهارا ، ومن شاء من الكهنـة فليصنع ذلك .
“بحق وواجب نسبحك ونباركك ونحمدك ونشكرك ونسجد لك في كل مكان سيادتك” . نحـن على الأرض وفي الفردوس معا ، هنا وفي كل القداس الذي نخاطبـه هو الآب ، لكوننـا في هذه الخدمـة واحدا مع المسيح فهو يكشف لنا الآب ويمكننـا من الكلام معه . الصعود الى الآب هو المنتهى ، ليس بعـد ذلك شيء .
” أنت أبرزتنـا من العدم الى الوجود ولما سقطنـا عدت فأقمتنـا” ، نشكر اللـه على خلقـه إيانا ومعرفتنـا إياه بهـذه الخليقـة . ثم الشكر على الخليقـة الجديدة اذ أقامنا معه من بين الأموات وأصعدنـا معـه ووهـب لنا منـذ الآن الملكوت الآتي ، وهبتَـه لنا بالمواعيد وتهبـه لنا الآن بجسدك ودمك فالكنيسة عتبـة الملكـوت وفيهـا جمالات منـه .
ثم نشكر الله من أجل هذه “الخدمة” التي نقيمها معا جسما روحيـا واحدا مع ان ألوفـا من الملائكـة يرتلـون إليك “مرنمـين وهاتفـين وصارخـين وقائلـين : قـدوس، قـدوس ، قـدوس” . هذا الكلام عن الخدمة السماوية القائمة حول العرش الإلهي مأخوذ من سفر الرؤيـا المستند بـدوره الى حزقيال ، وفـي الرؤيـا تقـول الملائكـة : ” قـدوس، قـدوس ، قـدوس ، الرب الإلـه القدير الذي كان وهـو كائـن وسيـأتي” .
في القداس احتفظنا بقسم مـن التريصاجيـون (النشيـد المثلـث تقديسـه) كما ورد في الرؤيـا اي قـدوس (ثلاثـا) وقطعنـا النـص وعدنـا الى رؤيـا اشعياء القائلـة: “قـدوس، قدوس، قدوس ، رب القـوات (وهي ترجمـة صباؤوت)، الأرض كلها مملؤة من مجده” . وبحركـة مسيحيـة قلنا “السماء والأرض مملؤتـان من مجدك” ، ثم رأينا ان هذا الإله الساكن في السماء والذي أنشده أشعيـا حزقيال إنما هو نفسـه الذي دخل الى أورشليم وهتف له الأطفال: “أوصنـا في الأعالي ، مبارك الآتي باسم الرب” .
رؤيـة المسيح الذي تخدمه الملائكة في السماء ورؤيته كما نخدمه نحن أهل الأرض واحدة . الكنيسة تبدو سماء على الأرض ، وليس بينهما انتقال مكاني . هنا نتسلق الأعالي لأننا بعد ان سألنا نعما كثيرة في الطلبات بتنا في مرتبة أعلى هي مرتبة الشكر لمِا أعطينا وذلك ليس الشكر على عطايا مادية بل على عطية الأعطيات .

الذكرى والروح القدس

” مع هذه القوات المغبوطة … نهتف نحن ايضا ونقول : قدوس أنت وكلي القدس يا من أحببت عالمـك بهذا المقدار حتى انـك بذلت ابنك الوحيد … فإنـه لمـا أتى و أتم التدبير الذي من أجلنا ففي الليلـة التي فيها أُسلم، والأولَى انه أسلم ذاتـه من أجل حياة العالم، اذ أخذ خبزا بيديـه المقدستين الطاهرتين البريئتين من العيـب وشكر وبارك وقدّس وكسر أعطى تلاميذه الرسـل القديسين قائلا: خذوا كلـوا هذا هو جسدي … اشربـوا منـه كلكم هذا هو دمي ..
ونحن بما اننا متذكرون هذه الوصية وكل الأمور التي جرت من أجلنـا … التي لك مما لك نقدمها لك على كل شيء ومن جهـة كل شيء” .
صلاة واحدة تتضمن سرد قصة الخلاص وما جرى في العشاء السري وهما شيء واحد . هذه هي الذكرى ، انها لذكرى لا بمعنى انها انتقال ذهني الى ما حصل في الماضي ولكن من حيث انها اختبار حالي للذبيحة التي تمت دفعـة واحدة على الصليب وفي القيامـة ، نذكر المسيح لأنـه معنا الآن “اقبلني اليوم في عشائك السري يا ابن اللـه” ، انها لمطابقة كاملـة بين ما جرى آنذاك وما يجري اليوم ، في العشاء السري الذي يتحقق اليوم نصل الى الغاية اي محبة المسيح ، أسس المسيح في علية صهيون سر الكنيسة التي تتحقق باستحالـة القرابـين الى جسد الرب ودمه ، في تأسيس العشاء السري يهبنا المسيح الملكوت “الآن تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيـه” يوحنا(13: 31). العشاء السري نتيجـة لظهور الملكوت في المسيح يسوع .
فالذبيحـة التي تمـت مرة واحدة منقولـة إلينا بالقداس، ظاهرة فيـه ، نحن لا نقيم ذبيحـة جديدة ، اذ ” نعلم ان المسيح، بعد ما أقيم من بين الأموات، لن يموت بعد ذلك ولن يكون للموت عليه من سلطان، لأنـه بموتـه قد مات عن الخطيئـة مرة واحدة” (روميه 6 : 9 و 10) . وبما ان الذبيحـة واحدة نسمي القداس “الذبيحة غير الدمويـة” ليس ان الذبيحة تتكرر في الخدمة الإلهية ولكنها الذبيحـة القديمـة الواحدة التي تظهر فاعليتها هنا ، وهكذا ينتشر نصر المسيح الذي تحقق على الجلجلـة وفي القيامـة في العالم اليـوم .
“ايضا نقرّب لك هذه العبادة الناطقة وغير الدموية ونطلب ونتضرع ونسأل فأرسل روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة واصنع اما هذا الخبز فجسد مسيحك المكرّم، واما ما في هذه الكأس فدم مسيحك المكرّم” .
هذا هو استدعاء الروح القدس الذي ينهي الخدمة الإلهيـة من حيث انه يحوّل الخبز والخمر الى جسد المسيح ودمـه . الصلاة مرفوعـة الى الآب لكي يرسل الروح القدس، لكي يظهره ويحوّل بـه القرابين لنتنـاول منها . قداس باسيليوس يوضح العلاقة بين الذكرى والتحول اذ تقول صلاة الاستحالـة هناك: “وإذ وضعنا رسمَي جسد ودم مسيحك المقدسين نطلب إليك ونسأل منك ان يحل بمسرة صلاحك روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين الموضوعـة ويباركها ويقدسها ويوضح اما هذا الخبز فجسد ربنا … واما ما في هذه الكأس فدم ربنا” . اما قوله : يوضح فلكون نزول الروح القدس هو ظهور الهي لنا ، السر صار الآن مكشوفا لنا ، الآن نتقبلـه على انه الخبز السماوي . ولذلك مباشرة بعد استدعاء الروح يكمل المعنى بقولـه :” لكي يكونا لانتباه النفس ومغفرة الخطايا وشركة الروح القدس وكمال ملكوت السماوات” . ولذلك عندما تكلم القديس سمعان اللاهـوتي الحديث (مفصل القرن العاشر والقرن الحادي عشر) عن هذا السر يقول انه النهار ويعني نهار الملك الإلهي الذي لا يغرب أبدا .
يأتي باسيليوس عند هذا الموضع بمعنى أكثر وضوحا اذ يقـول : “واما نحن المشتركين في الخبز الواحد والكأس الواحدة فاجعلنا جميعا متحدين بعضنا ببعض في شركـة روح قدس واحد” ، ما يريده هو ان شركة الروح تجعلنا كنيسة واحدة ، كنيسة تتوق الى الملكوت . انه سيكتمل بالكنيسة الممجدة عندما نكون معا في القيامة ، ولكنه مكشوف لنا الآن ولا يعوزنـا الا ان نعيش معا من هذا الزاد ونفرح .

بعد الاستحالة

بعد قول الكاهن عن الجسد والدم:” لكي يكونا للمتناولين لانتباه النفس ومغفرة الخطايا وشركة روحك القدوس وكمال ملكوت السماوات” يقدم الذبيحـة من اجل المتنيحين (الراقدين) بإيمان وهذه صلاة شكر للـه الذي أعطانا الآباء والأنبياء والرسل … ويشير بذلك الى اننا نحن الراجين القيامة قائمون في وحدة مع الذين سبقونا في الجهاد الروحي حتى يصل الى قولـه:”وخاصـة من اجل الكلية القداسة … ومن اجل القديس يوحنا … والقديسين المجيدين الرسل … وجميع قديسيك . والواضح انه لا يعني هذا ابتهالا من أجلهم فهم من أجلنا يبتهلـون ولكنـه يعني الشكر والفرح لوجودنا معهم في مشاركـة الملكوت .
بعد هذا يطلب من اجل الراقدين والكنيسة الجامعة وسلطات البلد ، ثم يذكر من شاء من الأحياء ويذكر المدينـة او القرية التي يقام فيها القداس ، وهذا ابتهال من أجلهم. وأخيرا يذكر رئيس الكهنـة ويطلب له ان يرعى الكنائس “بسلام، صحيحا، معافى، مديد الأيام وان يقول كلمة الحق قاطعا” حتى اذا ذكر الأسقف يشير الى انه مرتبط معه وبواسطته بالكنيسة الجامعـة .
وبعد ان يقول:”ولتكن مراحم الإله العظيم”، يتلو هو او الشماس طلبة ” من اجل هذه القرابين المكرمة” شاكرا الله من اجل مناولتنا إياها ويرجو الى الله ان يجعلنا مشتركين “بأسرار هذه المائدة الطاهرة الروحانية” الى ان يصل الى دعوتنا ان نتلو الصلاة الربانية حيث ندرك بنوتنا لله ونقول :”خبزنا الجوهري اعطنا اليوم” ويقصد به أولا الخبز السماوي ، ثم يلح على ان تكون هذه القدسات لخيرنا جميعا” .
بعد هذا يأتي الإعلان: ” القدسات للقديسين” . فان هذه القرابين تعطى لمن تطهر بالتوبـة، فيجيب الشعب :” قدوس واحد، رب واحد، يسوع المسيح” وكأنـه يقول : نحن لسنا بقديسين حقا لأن القديس الأوحد هو ابنك يسوع المسيح ، ولكن لأن لنا دالـة الأبناء نتجاسر ان نقترب من الأسرار . ثم يكسر الخبز أربعـة أجزاء قائلا: “يفصل ويجزأ حمل اللـه الذي يفصَّل ولا ينقسم الذي يؤكل منـه دائما ولا يفرغ أبدا”، ويرتب هذه الأجزاء على الصينية ويضع الجزء الأول المكتوب عليه باليونانية الحرفان الأولان من اسم يسوع ويضعـه في الكأس قائلا: “كمال كأس الإيمان بالروح القدس” ، وبعد هذا يسكب ماء حارا في الكأس دالا بذلك على ان الجسد والدم شيء حي لا يموت .
ثم يتلو الصلوات التي تعد الكاهن والشعب ان يشتركوا بالمائدة المقدسـة: “اني أومن يا رب واعترف بأنك أنت في الحقيقة المسيح ابن اللـه الحي … وأيضا أومن بأن هذا هو جسدك الطاهر نفسه وهذا هو دمـك الكريم عينـه” حتى يدرك الذروة في الاستعداد بقولـه: “اقبلني اليوم شريكا لعشائك السري” .
ويستغفر شركاءه في الخدمة والشعب اذ يلتفت إليه حانيا رأسه إمامهم ويتناول أولا الخبز على يمناه ثم الكأس ، وبعد هذا يتجه الى الشعب حاملا الكأس وقائلا:”بخوف اللـه وإيمان ومحبـة تقدموا” . ففي الهيكل يتناول الاكليروس الجسد بعد وضعه على اليد اليمنى ثم يرتشف الكأس . وكان الشعب قديما يتناول بهذه الطريقـة ، وقد أدخلنا الملعقـة في أواخر الألف الأول لتسهيـل المناولـة .
ولكن الكنائس التي لا تستعمل الملعقة كالأقباط والأنكليكان يتناولـون مثل إكليروسنـا ، يأخذون الجسد أولا في أيديهم ثم يتناولـون من الكأس مباشرة ، تلامس شفاههم الكأس جميعا .
وفي اعتقادي ان ما يظهره بعض الأرثوذكس اليوم من قرف امام الكأس بسبب الملعقة ينافي إيماننا بأن القرابين هي لصحتي النفس والجسد ، شعوب متحضرة كالأنكليكان واللاتـين في أوربا وهم أكثر تمدنا منـا ويعرفـون قوانين الصحة ويتناولـون ببساطة ولا يحتجون .
وإذا أردنا ان ندخل في هذه المناقشة فماذا يقترح المعارضون للملعقـة ؟ ان نتبنى أسلوبا ادخلـه سوانا : ان يغمس الكاهن الخبز المقدس بالخمر ويناولنـا؟ الأطباء الذين باحثتهم في الأمر يقولون ان يد الكاهن عليها من الجراثيم ما لا يجعلها أكثر نظافـة من الملعقة . ومن يضمن ان أصابع هذا الكاهن لا تمس الشفاه ؟ وفي كل حال اكليروس كل الكنائس يتناولـون مباشرة من الكأس وإذا أردنا ان نبحث طبيا فأفواههم مليئة بالجراثيم ، ماذا نكون فعلنا اذا أعطينا المناولـة بأصابع الكاهن وكان هو او عشرة من زملائـه المشتركين قد تناولـوا مباشرة من الكأس؟
أنا لا اغلق باب البحث وقد يتناولـه المجمع المقدس يوما ولكن العلماء المؤمنين ليسوا متحفظين تجاه هذا الأمر، وإذا أراد بعض الكهنـة رعايـة منهم للمشككين بأن يسكبوا الجسد برشاقة بحيث لا يمسون شفاه المؤمنين بالملعقـة فلا اعتراض على ذلك .

المناولة والختم

“بخوف اللـه وإيمـان ومحبـة تقدموا ” ويبقى الكثيرون في بعض الكنائس لا يقتربون من الكأس مع انهم سمعوا النداء : تقدموا ، فلمن يقول : “اشربوا منـه كلكم” ؟ هل هذا كلام انتهى مع الرسل أم كلام السيد دائمة حقيقته ؟ هل هناك من يأتي مشاهدا كطالب مستمع في جامعـة ولكنـه غير مسجل ؟ أما انتمينـا الى المسيح بالمعموديـة لنكون أصحاب البيت مشاركين الطعام الإلهي ؟ فأما ان يكون القـداس عشاء سريا نحن مدعوون إليه او يكون حفلـة صلوات وترتيل وعند ذاك لا نحتاج الى خبز وخمر، وإذا كانت الذبيحة التي أعدت ليست لنقتات منها فلماذا يقول السيد : “أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء من يأكل من هذا الخبز يحيَ للأبد … من أكل جسدي وشرب دمي فلـه الحياة الأبديـة وأنا أقيمـه في اليوم الأخير لأن جسدي طعام حق ودمي شراب حق” .
واما ذريعة الناس الذين لا يقبلون الى الكأس فهي انهم غير مستحقين ، وإذا كانوا كذلك فكيف يصبحون مستحقين صباح الخميس العظيم او في الفصح ؟ وإذا قالوا اننا عندئذ نتهيأ فلماذا لا يتهيئون في صبيحة كل أحد ؟ قد يسندون رأيهم الى قول الرسول:” فمن أكل خبز الرب او شرب كأسه ولم يكن أهلا لهما (او بغير استحقاق) فقد أذنب الى جسد الرب ودمه” ، هذا صحيح وهذه دعوة الى التوبـة شرطا للمناولـة ، ولكن من ذهب الى القداس بدون توبـة فإلى أين يذهب ؟ ان بولس لم يترك لنا الخيار بين التناول وعدمه بدليل قولـه مباشرة بعد هذا الكلام :
” فليختبر الإنسان نفسه (اي فليمتحنها بالتوبة)، ثم يأكل هكذا من هذا الخبز ويشرب من هذه الكأس” .
التوبة شرط أكانت باعتراف قانوني امام الكاهن أم لم تكن ، لا تشترط كنيستنا ان نتقبل سر التوبة قبل كل مناولـة ، سر التوبـة له تاريخـه ولم يظهر في الكنيسة قبل القرن الرابع والذبيحـة أقيمت مباشرة بعد حلول الروح القدس على التلاميذ ، هذان سران منفصلان وليس بينهما تلازم وان كان من المفيد ان يقرنهما المؤمن أحيانا ولا سيما اذا كان يتناول قليلا ، اما توبـة القلب فهي حالتنا المطلوبـة دائما .
ما وجب لفت الأنظار إليه انك تتقدم عندما يطلب إليك الكاهن ذلك اي عند قولـه :”بخوف اللـه …” . اما الكهنـة الذين كانوا على عجلـة لإنهاء القداس او استعجلـه المؤمنـون فكانـوا يتركون المناولــة لبعد القداس ، هذا انحراف شعبي ، يجب ان يكـون عندنا صبر لننتـظر بعضنا بعضا ونستلـم البركـة الأخيرة وإلا ينصرف أحدنـا فورا بعد المناولـة ، لا يترك الجماعـة مـن قرر ذلـك ، لا يمكنـك ان تغادر الكنيسة الا اذا قال الكاهن:”لنخرج بسلام” . اننا نأتي معا وننصرف معا كما في كل دعـوة الى مأدبـة ، هـذه مائـدة الرب ولا نتفرق عنها كل حسب مزاجـه.
بعد مناولـة الجميع :”خلص يا اللـه شعبك وبارك ميراثـك” ، فإذا تشاركنـا في القدسات نصيـر شعب اللـه ، كنيسـة اللـه .
بعد هذا، الطلبة الشكريـة:”اذ قد تناولنا أسرار المسيح الإلـه …” ثم الافشين المعروف بما وراء المنبر : “يا رب يا من تبارك الذين يباركونك … احفظ ملء كنيستك” ، فإنها قد اكتملت الآن بانتقالها الى السماء بواسطـة الأسرار الإلهية اذ ننضم الى جسد المسيح الظافر الجالس عن يمين الآب . ثم عبارات الختم : “أيها المسيح إلهنا الحقيقي يا من قام من بين الأموات …” .
بعد مناولـة المؤمنين يكون الكاهن قد أعاد الأواني المقدسة الى المذبح وبعد انصراف الشعب يتلمظ ما في الكأس اي يستهلك ما بقي فيها من الجسد المقدس والدم الكريم . ننصرف بسلام ونكون قد أتممنا العرس مع المسيح وما علينا الا ان ننتظر الاشتراك بنهار ملكـه الذي لا يغرب ، ونحمل قوة الأسرار الإلهية معنا طوال الأسبوع نحيا بها ونفرح .
بهذا بلغنا آخر هذا الشرح الموجز للقداس الإلهي باركنا اللـه بـه تبريكا كثيرا ..

المصدر:

شبكة القديس سارافيم ساروف www.serafemsarof.org