شرح القداس الإلهي (المتروبوليت بولس يازجي(

طقسية ليتورجيةزائر كتب “مملكة الثالوث

القداس الإلهي هو سر حضور المسيح، و بالتالي فهو كشف للمملكة المباركة “مملكة الآب و الابن و الروح القدس” لأن حضور المسيح هو نفسه ملكوت الله، إن هذا الحضور يحول الأرض إلى سماء.
المكان الذي يلتئم فيه المؤمنون ليشكروا الرب هو “مقر ملائكته، مقر رؤساء الملائكة، ملكوت الله، السماء نفسها”.
إن هدف مسيرة حياتنا هو الملكوت، فنحن نبارك الله أي أننا نعلن أنه هو هدفنا، مقصد حياتنا و غاية الخليقة بأسرها.
يقول الكاهن هذا الإعلان و هو يرسم بالإنجيل إشارة الصليب، العمل الأول الذي يقوم به الكاهن هو الصليب، فالقداس الإلهي هو ملكوت الله الذي يقود إليه الصليب الذي عٌلق عليه ملك المجد.
الصليب هو البرهان أن المسيح هو وحده الملك الحقيقي، إنه بالصليب فتح لنا الملكوت.
الشعب يقول “آمين” دلالة على قبولهم الحقيقة الموجودة في إعلان الكاهن و يعبرون عن توقهم إلى تذوق الملكوت، “آمين” بالعبرية تعني حقا”.

الطلبة السلامية الكبرى

و هي أطول طلبة في القداس الإلهي.
” بسلام إلى الرب نطلب”، بالخطيئة دخل الإنسان في حيز الاضطراب و التجزؤ و الخطيئة، و أما المسيح فقد أعاد الإنسان إلى الوحدة.
أول ما نطلب من الله هو السلام، و ليس السلام هنا هو السلام الذي يصنعه البشر بنزواتهم و لكن السلام الذي من العلى، لأن المسيح أتانا من العلى لكي يبعث فينا السلام الحقيقي الذي يعيد الطمأنينة في النفس المضطربة، السلام الذي يقبل كل نفس تائبة و عائدة.

“سلام كل العالم”
نطلب من الله أن يكون العالم في سلام دائم و ثابت و هذا يتحقق بالسلام العلوي، و هذا كله لتكون الكنيسة في ثبات أمام تجارب الشرير الذي يود الانشقاق للكنيسة، و أما اتحاد الجميع فهذا ناتج عن رباط الروح، رباط السلام، و بحسب القديس بولس الرسول:”يا أخوة اجتهدوا أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام”، أي أن نرتبط مع بعضنا البعض في رباط المحبة، رباط المسيح المخلص و هكذا نستعد جميعاً للمناولة و هكذا أيضا نعيش السلام الداخلي مع أنفسنا و السلام الخارجي مع الله والآخرين و نكون بذلك قد أصبحنا آنية مستحقة لقبول المسيح في داخلنا.

” من أجل هذا البيت….”.
عندما يدخل المرء إلى الكنيسة فإنه يدخل السماء في حضرة الله، و هناك على المؤمن أن يتصل مع الله بإيمان وورع لأن الخدمة هنا هي خدمة الله العلي خالقنا و مخلصنا.

† “من أجل أبينا و رئيس كهنتنا….”.
كان القداس الإلهي يبدأ في الفترة الأولى من العصر البيزنطي بالدورة الصغرى كما نعرفها اليوم في القداس، فكانت أول حركة ليتورجية هي دخول الأسقف إلى الكنيسة و يتبعها ارتداؤه الحلة الكهنوتية في وسط الكنيسة كما يحصل مرات كثيرة اليوم و قبل البدء بالقداس الإلهي. عملية لبس الأسقف حلته تصور حدث تجسد الكلمة و الأسقف يمثل المسيح أو هو أيقونة السيد الحية.

† ” من أجل هذه المدينة….”
نطلب من أجل المدينة التي نعيش فيها (المكان) و كل مكان في العالم. يقول القديس مكسيموس المعترف” المحبة الكاملة تجود على كل البشر بالتساوي”. وهكذا نصلي من أجل المكان الذي نعيش فيه و كل العالم.

† ” من أجل اعتدال الهواء .. و خصب الأرض بالثمار، و من أجل المرضى و المتألمين و الأسرى و المسافرين …”.
نلاحظ تفكير الكنيسة هنا بكل شخص بمفرده أينما وجد و في أي حال كان، ترغب الكنيسة بالتوجه إلى كل واحد على حدا و تصلي من أجله و من أجل أن يوفر الله له كل وسائل الحياة المرضية و الهانئة.

† ” من أجل نجاتنا من كل ضيق و غضب ..
نطلب من الله أن يحمينا من جميع مخاطر الشر و تجاربه(الخطيئة و اللذة البشرية يلازمها الألم)، لقد سمح الله أن يُجرِب الإنسان الألم كي يشفى من جرح الخطيئة، ليس الألم عقابا بل دواءاً يناسب حالة الخطيئة التي يعيشها الإنسان إذ كانت حالته ناتجة عن الخطيئة.
نسير بالضيقات نحو ملكوت الله “لأنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخله” و لكن كل تأديب في الحاضر لا يبدو أنه للفرح بل للحزن غير أنه يعطي في النهاية الذين يتروضون فيه ثمر برّ “للسلام”.
† يجيب الشعب على كل هذه الطلبات ” يا رب ارحم ” هذا الجواب البسيط يحمل كل اللاهوت و كل الفكر المسيحي، ” ارحم ” من الفعل رحم و هذا الفعل بالعبرية يعني رحمة و صلاح و رأفة و خير أي أننا نطلب من الله أن يسبغ علينا كل مراحمه.

† بعد ذكرنا الكلية القداسة …….لنودع أنفسنا……..
أي أننا نطلب معونة والدة الإله و جميع القديسين لكي نستطيع أن نودع حياتنا و ذواتنا للرب، و كما نذرت العذراء ذاتها هكذا لنتمثل نحن بها واضعين ذواتنا كعبيد للرب ” ها أنذا أمة الرب” و هنا تعليم فريد أن نودع بعضنا بعضا، كل إنسان مؤمن مسئول عن الآخر لأنه علينا أن نطلب الخير للآخرين كما لأنفسنا بحسب ما تعلمناه من المسيح.

† بعد ذلك يتلو الكاهن أفشين ينهيه بإعلان ثالوثي ” لأنه ينبغي لك كل تمجيد و إكرام و سجود أيها الآب و الابن و الروح القدس”..
” المصلين معنا” المجتمعون في الكنيسة هم الذين قبوا الدعوة الإلهية للعشاء، حضروا لكي يشتركوا في الحضور و المشاركة الإلهية الثالوثية في هذه الخدمة و هنا تأتي كلمة ” آمين ” لتؤكد أن الشعب يسعى و يستعد ليكون كل فرد فيه بيتا مقدسا لله.

‡ الأنديفونات:

1- ” بشفاعات والدة الإله يا مخلص خلصنا”.
في هذه الترنيمة تعليم عقائدي عن شفاعة والدة الإله، نطلب شفاعة والدة الإله العذراء مريم لكي يخلصنا يسوع ( طلبة الأم تقتدر عند السيد) مع التأكيد عل أن الخلاص يأتي من المسيح الإله أما مريم العذراء و القديسون فهم يتشفعون بنا أمام السيد، القديسون ليسوا وسطاء بالمعنى الحرفي للكلمة ” لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله و البشر هو الإنسان يسوع المسيح” ( 1 تي 2: 5) المسيح هو الوسيط الوحيد و لكن القديسين مجار حية بها تتدفق نعمة الفادي الوحيد.
إن شفاعة القديسين تستمد حقيقتها من الشركة التي تجمع المؤمنين – أعضاء جسد المسيح – فكما أن الأعضاء تخدم بعضها البعض في وحدة الجسد (1 كور: 12) هكذا المؤمنين بالصلاة كما كتب الرسول يعقوب في رسالته ” إن طلبة البار تقتدر كثيرا في فعلها” ( 5: 16).
العذراء مريم صارت أمنا لأنها ولدت المسيح الذي ارتضى أن يصير بجسده أخا لكل واحد مننا، و لأنها أمنا تنظر إلى حاجتنا و ترفعها إلى السيد لذلك تدعى بحق الشفيعة الحارة و ملجأ العالم.

– أيضا و أيضا بسلام إلى الرب نطلب…
لا يقصد بهذه الطلبة تكرار لسابقتها و لكننا لا نكلّ من تكرار الأقوال نفسها للرب، قد نطلب نحن الأمور نفسها و عندما تمنحنا إياها محبته عندها ندرك أنها ليست مماثلة لما كان في حوزتنا إننا نكرر طلب الحصول على السلام الذي من العلى لنتهيأ أكثر للاشتراك في مائدة الرب.

– ” بارك ميراثك” أفشين الأنديفونات.
يقول الذهبي الفم: ” أننا في القداس الإلهي نقف أمام المائدة المقدسة” بفرح شاكرين الله و الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور ” والمسيح هو كذلك ميراث كل البشر إننا نقدم المسيح لكل من على الأرض من بشر.

الأنديفونا الثانية:
” خلصنا يا ابن الله يا من…. قام من بين الأموات “.
ترتيلة عقائدية نعلن فيها أن يسوع المسيح هو ابن الله و أن الخلاص يحققه فقط لنا ابن الله القائم من بين الأموات، لأن الذي سوف الذي يأتي و يدين العالم هو المسيح ابن الله قاهر الشيطان بموته و قيامته، الاعتراف أن المسيح ” ابن الله ” هو حجر الزاوية، حجر إيماننا الذي تبنى عليه الكنيسة ” على هذه الصخرة ابني كنيستي” لأن الكنيسة هي امتداد لتجسد يسوع.

” يا كلمة الله…”
لقد تجسد الذي ترتعد له الشيروبيم و السيرافيم من النظر إليه و ارتضى أن يأخذ صورة عبد من خلق الكل بكلمة منه، يسوع المسيح ارتضى أن يسكن أحشاء والدة الإله متأنسا منها كي يحقق لنا النصر على الشيطان الشرير لنتغلب على الشرير و الشر و الموت.
وهذا النشيد الذي هو ملخص العقيدة الأرثوذكسية ( المستقيمة الرأي ) يعود إلى أوائل القرن السادس حوالي( 536م )، لقد قام المسيح بعملية التدبير الإلهي من يجسد و موت و قيامة دون أن يتخلى عن مجده الإلهي، دون أن يترك الألوهية، هذا النشيد في قداس الموعوظين قبل الإنجيل يشبه دستور الإيمان ( أؤمن بإله واحد….) في قداس المؤمنين و قبل الكلام الجوهري و المناولة هنا يبرز التشابه بين قداس الموعوظين المرتكز على الكلمة المحكية و المعلنة و بين قداس المؤمنين المرتكز على الكلمة المتجسد في الافخارستيا.

الدخول:
بعد الإعلان ترتل الجوقة طر وبارية القيامة، أي نشيد النصر و الظفر على الموت و ذلك بحسب لحن الأسبوع أو طر وبارية العيد أو القديس المحتفى به. و أثناء ذلك يتم الزياح فيسجد الكاهن ثلاث مرات أمام المائدة و يقبل الإنجيل و يطوف به في زياح و يتجه نحو الباب الملوكي في الهيكل و تتقدمه الشموع و الصليب. هذا الدخول يسمى الإيصودون ( دخول) أ و الدخول الصغير.
حتى القرن السابع كان القداس الإلهي يبدأ بدخول (إيصودون ) الإنجيل الشريف و كان الكاهن يرتدي حلته الكهنوتية في المكان الذي تحفظ فيه أدوات الكنيسة، من هناك يأخذ الإنجيل و يدخل مع المؤمنين إلى صحن الكنيسة و الأسقف يرتدي حلته أمام المؤمنين ثم يدخل الهيكل.
الشمعة التي أمام الإنجيل تشير إلى يوحنا المعمدان السراج الموقد المنير، و الدخول معناه أن الكاهن يرتقي من الأرضيات إلى ملكوت الله ليكون الصلة بين الله و الشعب، و في كل دخول ندخل إلى الملكوت لنرتقي إلى الله ” اجعل دخولنا مقرونا بدخول الملائكة القديسين الذين يشاركوننا في الخدمة و يمجدون معنا صلاحك “، هنا الأفشين بصيغة الجمع أي دخولنا جميعا إلى الملكوت، ويرمز كذلك إلى خروج المسيح للبشارة في العالم.
الايصودون الصغير هو صورة عن مجيء المسيح إلى العالم ليكون هو نور العالم كارزا ببشارة الملكوت التي إن قبلناها نعود إلى الملكوت.
† عندما يصل الكاهن أمام الباب الملوكي يبارك الهيكل راسما علامة الصليب و يقول: “مبارك دخول قديسيك كل حين…” إشارة إلى دخول شعب الله إلى الملكوت، الفرادة في هذه البركة هو ” دخول قديسيك ” أي شعب الله لقد دعانا يسوع لكي نكون قديسين كما هو قدوس و هذا ما فهمه بولس الرسول و خاطب به المؤمنين في كنائس و رسائل عديدة ” إلى القديسين الذين في أفسس” ( 1:1)

† يقول الكاهن الأيصوديكون “القطعة الخاصة بالدخول”، وهي في الأيام العادية: “هلموا لنسجد ونركع للمسيح ملكنا وإلهنا..” وتختلف باختلاف العيد الذي نقيمه. و هنا نسجد للمسيح ملكنا و إلهنا واعين أنه لا ملك آخر على قلوبنا و هو يدخلنا إلى ملكوته حيث سنتذوقه كلمة معلنة (الإنجيل) و الأخرى نتناولها على شكل جسده ودمه الإلهيين.

† يضع الكاهن الإنجيل المقدس على المائدة المقدسة.
† يتابع الخورسان ترتيل الطروباريات و طروبارية صاحب الكنيسة الذي نطلب شفاعته دائما في كل قداس.

التريصاجيون:
يعلن الكاهن ” لأنك قدوس أنت يا إلهنا و لك نرسل المجد……” و ترتل الجوقة ” قدوس الله…..” أو ما يعرف بالنشيد المثلث التقديس، ثم يتلو الكاهن افشين التريصاجيون الذي يفسره القديس جرمانوس قائلا: “قدوس الله، أي الآب. قدوس القوي، أي الابن و الكلمة لأنه قيّد الشيطان المستقوي علينا و أبطل بالصليب من له عزة الموت و منحنا الحياة و القوة و السلطان لكي ندوسه. قدوس الذي لا يموت، أي الروح القدس الذي يمد الخليقة كلها بالحياة”.
و لفظة قدوس في هذا النشيد ثلاث مرات هي نشيد الملائكة ( أش6 :2) و (رؤ 4: 8) و الألفاظ: الله – القوي – الذي لا يموت هي لداوود النبي القائل ” عطشت نفسي إلى الله إلى الإله القوي الحي ” ( مز42 : 2 ) .
جمعت الكنيسة المزمور و التسبيح الملائكي وأضافت طلبتها ” ارحمنا “ليظهر توافق العهدين والملائكة و البشر داخل الكنيسة.
عند ترتيل النشيد (المثلث التقديس) يذهب الكاهن مقتربا من المذبح و هو يقول ” مبارك الآتي باسم الرب “، ثم يبارك الكاثدرا قائلا:” مبارك أنت على عرش مجد ملكك أيها الجالس على الشيروبيم كل حين…….” و إذا كان الأسقف موجودا فهو يبارك الكاتدرا، وهناك تعليم أننا نصعد بالتدرج من العالم إلى داخل الكنيسة إلى الباب الملوكي إلى مكان العرش الذي يمثل عرش الله، عرش المسيح، و هناك عادة في بعض الكنائس أن يجلس الأسقف على هذا العرش الكاثذرا مباركا الشعب فيه.

† يبارك الأسقف الشعب من الباب الملوكي ب ” التريكاري ” أي الشمعدان ذي الشمعات الثلاث التي تشير إلى الثالوث الأقدس و “الذيكاري ” أي الشمعدان ذي الشمعتين رمزا لطبيعتي المسيح البشرية و الإلهية و يصلي كي يتعهد الله كنيسته، و الأسقف كونه صورة المسيح فهو يبارك و يطلب و يشفع لدى الرب.

• البروكيمنن:
و هو ترتيل آية في المزامير قبل قراءة فصل الرسالة فيقول القارئ البروكيمنن لأنه يدخلنا إلى سر الكلمة القديس جرمانوس يقول “إنه يشير إلى انكشاف الأسرار الإلهية والإنباء السابق بحضور الملك أي المسيح لذلك يستخدم كبروكيمنن استيخونات من المزامير لأنها تحدثنا عن عظائم الله”.

• ‡ الرسالة:
تؤخذ الرسالة من أعمال الرسل أو الرسائل، وهذه الرسالة تحتوي على التعاليم العقائدية و الروحية الملهمة من الله وأجوبة على المشاكل التي كانت مطروحة آنذاك ولازالت. الرسالة قد تأتي متوافقة مع حدث أو عيد أو قديس نعيد له في ذلك اليوم أو تأتي مرتبة حسب الآحاد ومتتالية بترتيب معين.

• ‡ الأفشين:
أثناء قراءة الرسالة يتلو الكاهن أفشين قبل الإنجيل ” أشرق في قلوبنا النور الصافي نور معرفتك الإلهية……وافتح حدقتي ذهننا حتى ندرك تعاليم إنجيلك..” فالإنجيل لا يدركه في عمقه و جوهره إلا الذي فتح قلبه لله و استنار بنور الله، نطلب من الله أن يمنحنا النعمة لكي يصبح الجسد و النفس بانسجام كاملين عبر الاستنارة بنور الكلمة الإلهية التي سوف تقرأ علينا.

• ‡ الهللواريون:
في نهاية الرسالة يعطي الكاهن السلام للقارئ و يأتي ترتيل “هللوييا” و هي كلمة عبرية تعني( هللوا لله ) إنها دعوة لنا كي نسبح الله و نفرح لأنه يظهر لنا بعد قليل من خلال كلمة الإنجيل الذي سيتلى على مسامعنا أي أنها ردة الفعل على مجيئه. و هي ترتيلة تسبيح و تحية للإعلان الإلهي الذي سيعلن لنا إعلان يسوع المسيح لكنيسته.

• التبخير:
لم تقبل الكنيسة بسرعة هذا العمل الطقسي، لأنه كان مشتركاً بين ديانات عدة وما لبث أن أدخل إلى الليتورجيا ليصير ممارسة طقسية دينية عادية جداً، فالجمر والبخور المتحول إلى رائحة ذكية ودخان يرتفع إلى السماء.
التبخير كان يؤدَّى خلال ترنيم الهلِّلواريون، أمَّا الآن أثناء قراءة الرسالة، والأفضل عند ترتيل قدوس الله الأخيرة، يبارك الكاهن البخور ويبخر المائدة المقدسة، والمذبح والأيقونات والشعب من الباب الملوكي.

• إفشين قبل الإنجيل:
هذه الصلاة تحتل في سر الكلمة الإلهية المكانة نفسها التي يحتلها استدعاء الروح القدس في الأنافورا، يطلب فيها من الآب إرسال روحه القدوس. ففهم الكلمة الإلهية وتقبلها غير خاضعين لإرادتنا وحدها فحسب، فالشرط الأساسي للفهم هو: أن تفتح ” عيوننا الروحية ” سرياً وأن يحل علينا الروح القدس، وهذا ما تشهد عليه البركة التي تعطى للشماس لقراءة الكلمة الإلهية.

• قراءة الإنجيل:
في الدورة الصغرى يرفع الكاهن الإنجيل مغطياً وجهه به لكي يُظهِر للمؤمنين وجه المسيح، والآن بقراءة الإنجيل الشريف يقدم فمه ” للكلمة ” حتى يسمع المؤمنون ” الكلمة “. فإذاً عوض الكاهن يرى الناس المسيح، وعبر فمه، نسمع صوته ” صوت المسيح “. بالإنجيل الشريف نشاهد المسيح في وسطنا ونسمعه يدعونا إلى مملكته.
الإنجيل في التقليد الأرثوذكسي ليس جزءا من الليتورجيا كمادة للقراءة فحسب بل كتاب نحترمه، نكرمه كالأيقونة والمائدة، لذلك نبخِّره ونبارك به شعب الله.

• الحكمة فلنستقم:
يجب علينا أن نرفع أذهاننا فوق الأرضيات كي نتمكن من فهم كلمة الله، فالكاهن على التحادث مع الله بغيرة وتقوى حارة، فانتصاب الجسد وقوفاً هو علامة أولى للغيرة والتقوى، لأن هذه هي وضعية المتضرعين، هذه هي وضعية العبد المشدود إلى سيده ليسرع على الفور لخدمته.

• السلام لجميعكم:
إن منح الكاهن السلام يشير إلى منح نعمة اللاهوى من الله إلى المؤمنين المجاهدين في سبيل الانعتاق من الأهواء، المسيح بيد الكاهن وفمه، يَهَبُ نفس المجاهد السلام الذي من فوق، السلام هو اسم المسيح لا بل المسيح هو السلام عينه. تسبق هذه التحية السلامية كل قسم جديد من الليتورجيا الافخارستية، فهي تعطى قبل قراءة الكلمة الإلهية . . والقبلة السلامية المقدسة . . وتوزيع القدسات.. لتذكرنا كل مرة أن المسيح ” بيننا ” يرأس هو بنفسه قدَّاسنا الإلهي لأنه هو ” المقرَّب والمقرِّب والقابل والموزَّع”.

• ولروحك:
الشعب الذي يقبل بركة السلام من الكاهن يصلي لأجله، فهو الأب والراعي وذلك كي يجني هو أيضاً سلام الله.

العظة، الدرس المقدس:
تأتي البشارة لتشهد على أن الكلمة الإلهية سُمعت وفُهمت وقُبلت، فالعظة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بقراءة الكتاب المقدس، وكانت في الكنيسة الأولى جزءاً من ” اجتماع الجماعة ” والعمل الليتورجي الجوهري للكنيسة، والشاهد الدائم على الروح القدس الحي في الكنيسة الذي يرشدها إلى جميع الحق ” يوحنا 13:16 “.
للوعظ وجهان:
• 1-يكمِّل موهبة التعليم التي أعطيت للكاهن ليقوم بخدمته في تعليم الجماعة.
• 2-لا تفصل خدمة التعليم عند الإكليروس عن الجماعة التي هي مصدر نعمته.
موهبة التبشير ليست موهبة شخصية بل موهبة تُمنح للكنيسة لتعمل في الجماعة، حيث الروح القدس يحل على الكنيسة برمَّتها ومهمة رئيس الخدمة الوعظ والتعليم، أمَّا مهمة الشعب تقبّل هذا التعليم. هاتان الوظيفتان نابعتان من الروح القدس وهما تتمان في الروح القدس وبواسطته، فالكنيسة جمعاء أخذت الروح القدس لا مجموعات.
يُمنح الأسقف والكاهن موهبة التعليم في الكنيسة لأنهما شاهدان على إيمان الكنيسة ولأن التعليم ليس تعليمهما بل تعليم الكنيسة ووحدة إيمانها ومجيئها.
في الماضي البعيد كانت الجماعة تجيب ” آمين ” بعد انتهاء العظة تأكيداً بذلك على أنها قبلت الكلمة الإلهية وإثباتاً على أنها واحد في الروح مع الواعظ.

قداس المؤمنين:
ينتهي الجزء الأول من القداس الإلهي المعروف بقداس الموعوظين أوقداس “الكلمة” بالعظة ويبدأ الجزء الثاني أو قداس المؤمنين. في الجزء الأول ظهر لنا يسوع عبر الكلمة الإلهية التي سمعناها في الرسالة والإنجيل والعظة. في القديم كان الموعوظون أو الذين يتهيأون للمعمودية يخرجون من الكنيسة عند هذا الحد من القداس بناءً على دعوة الشماس لهم بأن يخرجوا.

الأنديمنسي:
بداية قداس المؤمنين تكون مع فتح الأنديمنسي لتوضع عليه القرابين المقدسة. والأنديمنسي كلمة يونانية وتعني “عوضاً عن المائدة”، وهو كناية عن قطعة قماش مستطيلة عليها أيقونة المسيح وهو في الرمس، وحول الصورة كُتبت طروبارية الجمعة العظيمة: “إن يوسف المتقي أحدر جسدك الطاهر من العود…” فالذبيحة التي ستوضع على الأنديمنسي ليست سوى صورة لذبيحة الصليب التي قدّم فيها الرب نفسه فداءً عن البشر أجمعين. وغالباً ما يوضع في زاوية الأنديمنسي جزءاً من رفات أحد القديسين. لأنه في القرون الأولى كانت تقام الذبيحة الإلهية على أضرحة القديسين الشهداء الذين قدموا دمهم وحياتهم ثمناً لإيمانهم بالرب يسوع. ويقوم الأسقف عادةً بتكريس الأنديمنسي عبر التوقيع عليه، وذلك للدلالة على التفويض الذي يمنحه الأسقف للكهنة لكي يقيموا بدورهم الخدمة الإلهية، وتوقيع الأسقف كذلك هو علامة طاعة للرب وللأسقف الذي هوصورة للمسيح رئيس الكهنة الأوحد، ورمزاً للشركة التي تجمع الأسقف والكاهن والرعية.

صلاة الكاهن من أجل نفسه:
يقول الكاهن عند فتح الأنديمنسي الاعلان التالي: “حتى إذا كنا محفوظين من عزتك كل حين..”، وبعده يتلو صلاة من أجل نفسه “ليس أحد من المرتبطين بالشهوات…” يعلن فيها عدم استحقاقه لخدمة الأسرار الإلهية المقدسة، ويعترف أمام الرب أنه إنسان خاطئ ويطلب منه أن يطهره ويجعله مستحقاً للوقوف أمامه بالروح القدس المعطى له بسر الكهنوت. يعي الكاهن أن ما سيحمله بيديه البشريتين (الجسد والدم الإلهيين) هو فوق استحقاق البشر، لذلك يطلب عون الرب لأداء هذه الخدمة؛ وأيضاً أن المسيح هو الذي يقرّب الذبيحة التي قرّبها مرة ومازال يقرّبها. يشعر الكاهن هنا بالرعدة فيداخله لذا يطلب المعونة من العلاء لكي يكون السر فاعلاً في قلوب المؤمنين وحياتهم.

الشاروبيكون:
أثناء تلاوة الكاهن الصلاة من أجل نفسه ترتل الجوقة ترتيلة التقدمة أو ما يعرف “بالتسبيح الشاروبيمي) “أيها الممثلون الشروبيم سرياً..”. غاية هذا التسبيح الشاروبيمي تهيئة المؤمنين للاشتراك في الأسرار المقدسة. إنه دعوة لهم لكي يتشبهوا بالملائكة المحيطين بالعرش الإلهي المسبيحين باستمرار: “قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت” (اشعياء6). وتدعونا هذه الترتيلة إلى التشبه بالشاروبيم (وهم فصيلة من الملائكة) وترنيم تسبيح الملائكة والتجرد والترفع عما هو دنيوي مادي، ووضع الرب دائماً نصب أعيننا كما تفعل الملائكة. إن ملك الكل ورب الجميع سيأتي سرياً ويحضر بيننا على المائدة المقدسة فيجب علينا الاهتمام به فقط “لأن الحاجة إلى واحد” (لو42:10).

الدخول الكبير:
بعد انتهاء ترتيل التسبيح الشاروبيمي، يأخذ الكاهن الكأس والصينية عن المذبح في تطواف داخل الكنيسة ويضعها على المائدة المقدسة. إن هذه القرابين هي قرابيننا التي قدمناها عن أنفسنا وعائلاتنا، ويجب علينا أن نقدم قبل كل قداس إلهي تقدماتنا لكي نرفع صلاتنا جميعاً مشتركين مع بعضنا، كجسد واحد للمسيح، في الصلاة من أجل الجميع. الكاهن يحمل قرابيننا ويرفعها إلى الهيكل السماوي ويدخل معها إلى الملكوت لنجلس إلى مائدة الرب في ملكوته ونشترك جميعاً في ذبيحة المسيح. أثناء التطواف يعلن الكاهن: “جميعكم ليذكر الرب الإله في ملكوته السماوي كل حين..” ثم يرفع رئاسة مطران الأبرشية ويذكر الأحياء والأموات الذين قدمت على اسمهم القرابين المقدسة. نستودع من نذكرهم الله. نذكر الأحياء والأموات معاً لأنه لا شيء يفصل في الكنيسة بين من رقد ومن هو حي. الجميع، أحياءً وأمواتاً، أحياء في المسيح يسوع، لأن المسيح “إله أحياء وليس إله أموات” (متى23:22).
أخيراً عند وصول الكاهن إلى داخل الهيكل يضع القرابين على المائدة ويضع عليها الستر الكبير، إشارة إلى دحرجة الحجر عن باب القبر الذي وضع فيه المسيح.

الطلبات:
بعد الانتهاء من وضع القرابين على المائدة المقدسة يبدأ الكاهن تلاوة سلسلة من الطلبات (لنكمل طلباتنا للرب) التي تسبق الكلام الجوهري. وتقسم إلى قسمين: القسم الأول يجيب عليه الشعب بـ “يارب ارحم” ويطلب فيها الكاهن من أجل القرابين ونجاتنا من الضيقات والضرر والأحزان والشدة. والقسم الثاني يجيب عليه الشعب بـ “استجب يا رب”. ويسأل الكاهن من الرب السلام ليومنا وأن يحفظ نفوسنا وأجسادنا من الشرير. وأن نمضي بقية حياتنا بالسلام الذي من الله وأن تكون حياتنا مسيحية لكي يكون وقفنا أمام منبر المسيح في اليوم الأخير بلا عيب.

قانون الشكر أو الكلام الجوهري
بعد انتهاء الطلبات يقف الكاهن في الباب الملوكي ويمنح السلام والبركة للشعب قائلاً: “السلام لجميعكم”، مفتتحاً بذلك قانون الشكر أو ما يعرف بالكلام الجوهري. الكاهن يمنحنا سلام الله، لأنه جيد أن نكون في حالة سلام مع الله ومع الآخرين ومع أنفسنا في هذه اللحظات المقدسة.
ثم يعلن الكاهن “لنحب بعضنا بعضاً لكي نعترف بعزم واحد مقرين، ويجيب الشعب: “بآب وابن وروح قدس، ثالوث متساوٍ في الجوهر وغير منفصل”. في القديم كان الشعب عند هذا الإعلان يتبادلون القبلة المقدسة، كما يقول بولس الرسول: “سلّموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة” (رومية16:16)، ويرددون خلالها: المسيح معنا وفيما بيننا كان وكائن ويكون. هذا الترتيب مازال محفوظاً إلى يومنا هذا بين الكهنة في الهيكل. فبسبب محبة المسيح التي فينا لا يسعنا إلا أن نحب الغريب الذي يقف بجانبنا الذي سيشاركنا هذه الكأس الواحدة. الدعوة إلى المحبة بيننا تفتتح الكلام الجوهري الذي نستعد فيه للمناولة، فالمحبة ليست موضوعاً نظرياً، بل عمل يترجم بأفعال محبة نؤكد فيها للعالم أننا فعلاً جسد واحد هو جسد المسيح، وأن المسيح حاضر بالحقيقة معنا وفيما بيننا.
الأمر الثاني المهم في هذا الإعلان هو ارتباط إعلان محبتنا لبعضنا بإقرار إيماننا بالثالوث القدوس. وعت الكنيسة أن الشرط الأساسي للفكر الواحد، الذي يطلبه منا المسيح، هو المحبة التي هي على صورة محبة المسيح لنا، على صورة محبة الثالوث الأقدس الذي نعلن إيماننا به. المحبة والإيمان بالثالوث الأقدس مرتبطان. فكما أن الثالوث هو في وحدة نابعة من محبة سرمدية هكذا يجب أن نكون في محبة بعضنا كما الثالوث لنصير واحداً في المسيح. وكما أن المحبة شرط أساسي لاشتراكنا بالذبيحة الإلهية، كذلك إيماننا المشترك الواحد بالثالوث هو شرط أساسي لهذه المشاركة. الإيمان المشترك الواضح هو الركيزة الأساسية للمناولة المشتركة لذا يأتي تشديدنا على وحدة الإيمان في الكنيسة قبل المناولة المشتركة. المناولة المشتركة مع الآخرين هي تتويج لعملية الوحدة الإيمانية وليست وسيلة للوصول إلى الوحدة.
دستور الإيمان
عند انتهاء ترتيل “بآبٍ وابن وروح…” يعلن الكاهن: “الأبواب، الأبواب بحكمة لنصغ” ويتلو الشعب دستور الإيمان: “أؤمن بإله واحد..”. في القديم، كان الاعلان: “الأبواب الأبواب” تنبيهاً لحافظي أبواب الكنيسة كي يتيقظوا ولا يسمحوا لأي من الموعوظين الذين يستعدون للمعمودية بالدخول إلى الكنيسة بعد هذا الإعلان، لأنه يحق للمعمدين فقط الاشتراك في الذبيحة الإلهية. اليوم، يدعونا الإعلان إلى إغلاق كل الأبواب المؤدية إلى قلوبنا والتي قد يدخل عبرها أي فكر شرير يعرقل اشتراكنا بجسد ودم الرب أو يمنعه، وإلى فتح ذهننا لكي نعي هذا الإيمان الذي نحن مزمعون أن نعلنه.
أما دستور الإيمان فهو بالتحديد اعلان النقاط الأساسية للعقيدة والإيمان المستقيم الرأي (الأرثوذكسي) حول الآب والابن والروح القدس والكنيسة والمعمودية وقيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي. وقد أُدخل هذا الدستور إلى القداس الإلهي في بدايات القرن السادس لأن الكنيسة تعي أن وحدة الإيمان بين الجماعة الكنسية أمر بديهي لابد منه، وإن هذه الوحدة شرط أساسي للمناولة المشتركة. هكذا يتضح لنا وصف القديس اغناطيوس الأنطاكي لسر الكنيسة على أنها سر الوحدة بالإيمان والمحبة (مغنيسية2:1) “لأن القلب يؤمَن به لله والفم يُعترف به للخلاص”(رومية1:10)، لذلك في كل قداس إلهي نعترف “بفم واحد وقلب واحد” بإيماننا ونعلن استعدادنا لتقبّل هذا الإله الذي نعترف به في دستور الإيمان داخلنا.
أثناء تلاوة دستور الإيمان يرفع الكاهن الستر الكبير الذي يغطي به الكأس والصينية ويرفرف به فوقهما ويتلو دستور الإيمان. هذه الرفرفة هي صورة للزلزلة التي سبقت قيامة الرب. يرفرف به إلى أن نصل إلى “وقام من بين الأموات” حيث يضعه جانباً صورة لدحرجة الحجر عن باب القبر. ثم يأخذ الستر الصغير ويرفرف به حول القرابين رمزاً لرفرفة الروح القدس، هذا الروح الذي سيحل على القرابين لتستحيل إلى جسد المسيح ودمه.
بعد الانتهاء من تلاوة دستور الايمان يعلن الكاهن: “لنقف حسناً، لنقف بخوفٍ لنصغِ، لنقدم بسلام القربان المقدس”. في هذه اللحظات الرهيبة علينا ان نكون في حالة استعداد وخشوع ورهبة، نفساً وجسداً، لنقدّم القربان المقدس. يجب أن نقف وقفة استعداد شاخصين نحو الملك السماوي وقائلين: “قلبي مستعد يا الله” (مز7:75)، ومرددين مع بطرس الرسول على جبل ثابور: “يا رب جيد أن نكون ههنا” (متى3:17) الرب يتجلّى لنا في القداس الإلهي عبر جسده ودمه الكريمين.
يجيب الشعب: “رحمة سلام ذبيحة تسبيح” قال الرب: “أريد رحمة لا ذبيحة” (مت13:9) فالذبيحة بدون رحمة لا معنى لها. الذبيحة المرضية لله هي تلك الصادرة من القلوب المملوءة رحمة ومحبة وسلاماً. لكي نكون مستعدين لتقديم القرابين نحن بحاجة إلى النعمة الإلهية. هذا ما يمنحنا إياه الكاهن: “نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس لتكن مع جميعكم” (2كو7:13). هذا الإعلان إشارة إلى مساهمة كل من الأقانيم الثلاثة في العمل الخلاصي، فالآب من أجل محبته للبشر أرسل ابنه الوحيد لخلاص العالم، والابن بتجسده وصلبه وموته وقيامته وصعوده أعطانا نعمة الفداء، التي تعطى لنا بالروح القدس الذي يسكن فينا بالمعمودية والأسرار الأخرى ويجعل بيننا وبينه شركة إذ يجعلنا هياكل له. يقول الرسول بولس أننا في المسيح يسوع حصلنا على الخلاص الذي به “لنا سلام مع الله.. والذي به أيضاً صار لناالدخول بالإيمان إلى هذه النعمة” (رو5: 1-2). “لا أحد يأتي للآب إلا بي” (يو6:14) لذلك وضع الرسول بولس نعمة ربنا يسوع المسيح في بداية الاعلان.
ثم يحثنا الكاهن “لنضع قلوبنا فوق”. دعوة الكاهن لنا أن يكون الله كنزنا وأن نعطيه قلبنا. “يا بني اعطني قلبك” (أمثال26:23). يجيب الشعب على هذه الدعوة: “هي لنا عند الرب”. نطرح عنا كل خطيئة واهتمام أرضي ونرتفع بقلبنا إلى الله. ويردف الكاهن قائلاً: “لنشكرن الرب”، ألا يسمى القداس الإلهي سر الشكر! فالذبيحة هي ذبيحة شكر لله على كل ما أعطانا. ويجيب الشعب على هذه الدعوة بالقول: “لحق وواجب أن نسجد لآب وابن وروح قدس ..”. سجودنا للثالوث هو التعبير الوحيد عن شكرنا لله على كل ما أعطانا. إن معرفة الله تستحيل علينا دون شكره. فبعدما تمّ كل شيء، أي بعد منح غفران الخطايا وكسر شوكة الموت، لم يبق أمام الإنسان إلا أن يسبح ويشكر، وكأننا مُنحنا الشكر عرفاناً من الله وفرحاً فردوسياً. أثناء ترتيلنا “لحق وواجب…” يتلو الكاهن صلاة باسم المؤمنين نشكر الله فيها لأنه أخرجنا من العدم إلى الوجود، ورغم سقوطنا بالخطيئة منحنا الخلاص. ونشكره على كل احساناته الينا الظاهرة وغير الظاهرة. الإنسان المسيحي هو العبد الشكور ودوماً الذي يؤمن بأن الله يريد خيره وإن كان هو يجهل كيف يعمل الله، ويؤمن بأن كل عطية صالحة هي من لدن الله.
في نهاية الافشين (صلاة الكاهن) يشكر الكاهن الله لأنه قَبِل ذبيحتنا مع أنه يقف حوله ألوف من الملائكة “بتسبيح الظفر مرنمين وهاتفين وصارخين وقائلين.” يرتل الشعب : “قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت (رب القوات السماوية) السماء والأرض مملوءتان من مجدك،..” القسم الأول من هذا النشيد يذكرنا بالتسبيح الملائكي الذي سمعه اشعياء النبي (أشعياء6)، حيث الشاروبيم والسارافيم يحيطون بعرش الله ويسبحون على الدوام قائلين قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت السماء والأرض مملوءتان من مجدك. تسبيح الملائكة هذا يلتقي مع هتاف أطفال أورشليم وهم يستقبلون الرب في دخوله إلى أورشليم: “أوصنا في الأعالي مبارك الآتي باسم الرب” (مت9:21). كلمة “أوصنا” هي كلمة عبرية وتقابلها بالسرياني “هوشعنا” وتعني “خلصنا يا من في الأعالي”. نصرخ نحو الآب متضرعين أن يمنحنا الخلاص مقرين معترفين ومباركين المسيح الآتي باسمه الذي سوف نستقبله على المائدة المقدسة بعد قليل، بل وسنستقبله كالأطفال في داخلنا ونتحد به عبر المناولة. دمج النشيد الملائكي مع البشري إشارة إلى أن السماء والأرض اتحدتا بتجسد المسيح. في القداس الإلهي ندخل الملكوت، والملائكة تخدم معنا ونحن نردد تسبيحهم كالأطفال بقلوب نقية طاهرة لأنه إن لم نعد كالأطفال فلن ندخل ملكوت السماوات (مت3:18) في القداس الإلهي تصير الكنيسة السماء على الأرض.
أثناء ترتيل هذا النشيد يتلو الكاهن صلاة باسم كل الشعب الواقف حوله يقر فيها ويعترف بقداسة الله ومجده. هذا التذكر لما صنعه الله معنا ليس مجرد عرض بسيط للأحداث الخلاصية كفيلم سينمائي، إنما هو أحياء لهذه الأحداث وكأنها حاصلة الآن ونشكل جزءاً منها. لذلك يكرر الكاهن في كل قداس هذا التذكر لكي نحياها في كل قداس إلهي. في نهاية الافشين يعلن الكاهن وهو يشير إلى الحمل (القربان) الموضوع على الصينية الذي سيستحيل إلى جسد الرب يسوع بحلول الروح القدس عليه: “خذوا كلوا هذا هو جسدي…” ويجيب الشعب آمين، أي حقاً. ثم يشير إلى الكأس قائلاً: “اشربوا منه كلكم …”. نحن الآن فعلاً على مائدة العشاء السري، مائدة الملكوت، مع الرب ورسله ونسمع صوت الرب يقول “خذوا كلوا …اشربوا”.

قانون الشكر أو الكلام الجوهري – استدعاء الروح القدس
بعد كلام التأسيس “خذوا كلوا..اشربوا منه كلكم..” يقول الكاهن: “ونحن بما أننا متذكرون هذه الوصية الخلاصية، وكل الأمور التي جرت من أجلنا الصليب والقبر والقيامة ذات الثلاثة أيام والصعود إلى السماوات والجلوس عن الميامن والمجيء الثاني المجيد أيضاً، التي لك مما لك نقربها لك على كل شيء ومن جهة كل شيء”. الذبيحة التي نقدمها هي امتداد وتذكار لما فعله الرب من أجلنا لكي يخلصنا، كما أنها استباق لما سيحدث في المستقبل أي اشتراكنا في مائدة الملكوت والمجيء الثاني المجيد. في هذا الإطار يقدم الكاهن القرابين باسم الشعب الواقف حوله. هذه الذبيحة، كما ذكرنا سابقاً، نقدمها لله لكي نشكره على كل ما أعطانا. الخبز الذي هو عنصر الحياة نقدمه للرب رمزاً لتقديم حياتنا له لكي يقدسنا وندخل الملكوت.
ويتلو بعدها الكاهن صلاة استدعاء الروح القدس. رافعاً الصلاة باسم الكنيسة المجتمعة مستعملاً صيغة المتكلم الجمع: “نطلب ونتضرع ونسأل أن ترسل روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة، واصنع هذا الخبز فجسد مسيحك المكرم،آمين، وأما ما في هذه الكأس فدم مسيحك المكرم، آمين، محولاً إياهما بروحك القدوس آمين . آمين. آمين.”. في هذه الصلاة نصل إلى أهم لحظات القداس الإلهي وأدقها حيث سيتحقق تحويل القرابين إلى جسد المسيح ودمه.القداس الإلهي هو عملية متكاملة وأجزاء القداس لا تنفصل عن بعضها البعض بل تتكامل. هكذا لا يمكن فصل استدعاء الروح القدس على القرابين عن باقي أجزاء القداس وإلا صار بالإمكان اختصار القداس إلى هذه الصلاة بمفردها ثم المناولة. هذه الصلاة تتوج ما كنا نعد له في القداس عبر اجتماعنا مع بعضنا وقراءة الإنجيل والرسالة وإعلان إيماننا ومحبتنا إلخ… ما يميز هذه الصلاة هو استدعاء الروح القدس “علينا” وعلى القرابين الموضوعة. علينا أن نصير هياكل للروح القدس.
ويتابع الكاهن الصلاة مؤكداً أن هدف استحالة جسد الرب ودمه “لكي يكونا للمتناولين لانتباه النفس ومغفرة الخطايا وشركة الروح القدس..” نقدم القرابين للآب ويحولها لجسد ابنه ودمه لكي تتجدد حياتنا ونتأله باقتبالنا مصدر الحياة.
يستأنف الكاهن شكره لله على النعم الغزيرة التي منحنا إياها عبر الأنبياء والرسل والقديسين كما نشكره “خاصة من أجل والدة الإله ..” ويصلي بعدها من أجل الراقدين ومن أجل الأساقفة والكهنة والعالم بأسره..ثم يذكر رئيس الكهنة مطران الأبرشية بصوت عالٍ لكي يبقى حافظاً كلمة الله التي هي الحق والحياة ومعلماً لها.

القدسات للقديسين:
بعد تلاوة الصلاة الربية يعطينا الكاهن السلام لكي نكون مستعدين للاقتراب من الأسرار المقدسة، ويصلي كي تكون هذه المقدسات “لخيرنا جميعاً بحسب حاجة كل واحد منا … ولشفاء المرضى” الله وحده يعلم حاجة كل واحد منا (متى 6:8) وهو وحده يعرف خيرنا وما في قلوبنا. ينهي الكاهن صلاته باعلان “بنعمة ورأفات ابنك الوحيد ومحبته للبشر الذي أنت مبارك معه ومع روحك الكلي قدسه الصالح والصانع الحياة…” يسجد الكاهن أمام القرابين ثلاث مرات قائلاً “با الله اغفر لي أنا الخاطئ وارحمني”، لأنه على وشك أن يحمل الرب بيديه. ثم يرفع لكاهن الحمل بيديه ويعلن: “لنصغ القدسات للقديسين”. دعوة لنا لأن نتيقظ ونكون حذرين. فالقدسات، أي القرابين المتحولة إلى جسد الرب ودمه، يستحقها القديسون فقط. لكن هذا الكلام موجه لنا نحن المجتمعون حول مائدة الرب في الكنيسة، حول الذين يسعون للخلاص من خطاياهم ويطلبون رحمة الرب ويثق بأن الرب”. وتأتي صلوات الاستعداد للمناولة ليعلن فيها المؤمن عدم استحقاقه واتكاله على الرب ورحمته وثقته بمحبة الرب “الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تيمو4:2).

المناولة:
يرفع الكاهن الحمل الجسد المقدس عن الصينية ويقول: “القدسات للقديسين” الحمل الذي رفعه الكاهن بيديه هو جسد الرب الكريم، وهو القدسات ولا شيء أقدس منه. ولكن القدسات لا يجوز التفريط بها ولا تعطى إلا لمن يستحقها. هذا الكلام موجه إلينا جميعاً لأننا وبحسب تسمية بولس الرسول ندعى قديسين لأننا جميعاً أعضاء جسد المسيح في الكنيسة الواحدة.

“بخوف الله وإيمان ومحبة تقدموا”
هنا قمة القداس الإلهي، هدف القداس الإلهي هو المناولة، وهنا شروط الدعوة خوف الله وإيمان به ومحبة الله والقريب.
فخوف الله أي أن نعي تماماً أن الله هو الخالق وهو الديان الحنون والعادل، ويضاف إلى ذلك الإيمان المستقيم الرأي إيماناً بالله والثالوث وعمل الخلاص، وأخيراً المحبة؛ محبة الله والقريب ومحبة الخلاص لأنفسنا وللآخرين.
المناولة تجعلنا متحدين مع يسوع المسيح، ونصير كذلك واحداً مع المشتركين من ذات الكأس. لأن المسيح يسوع هو من يوحدنا مع بعضنا البعض بالحقيقة. ونؤكد أيضاً أننا في المناولة نثبت في المسيح “من ياكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية.. يثبت فيّ وانا فيه” (يوحنا6: 54-56). المناولة هي الخبز السماوي وغذاء حياتنا، ولهذا يوصي الآباء القديسون بالمناولة المتواترة.
في مقابل هذا نشدد ونؤكد على أهمية الاستعداد للمناولة بشكل جيد؛ الصلاة (صلاة قبل المناولة أو “المطالبسي”) أولاً تدخلنا في عمق العلاقة المستمرة مع الله، وثانياً الصوم والانقطاع عن الطعام منذ الليلة التي تسبق القداس الإلهي، الصوم هو تعبير عن أن لا الطعام ولا الشراب يلهينا عن الشركة مع الرب يسوع، الذي نعتبره الإله الحقيقي ولا يلهينا عنه شيء، بالإضافة لكونه نوع من الجهاد الروحي لاستقبال يسوع الإله في قلوبنا. أخيراً نهيأ أنفسنا للمناولة عبر طلب المغفرة من الله والصفح عن كل من أخطأ إلينا والتقرب بطلب الغفران لكل من أخطأنا إليه. كيف تتحقق غاية المناولة بالشركة مع المسيح الإله ومع الآخرين إن بقي في قلوبنا شيء من الحقد أو الكراهية على الآخر كائناً من كان؟! الكأس الواحدة هي زواج عضوي برأس الجسد (المسيح) واقتران حقيقي بكل أعضاء الجسد (المؤمنين في الكنيسة)، المناولة هي دعوة لأن نقترن مع بعضنا البعض بعلاقة تربطنا جميعاً بالسيد له المجد.

الانتهاء من المناولة
عند الانتهاء من مناولة الشعب يقف الكاهن في الباب الملوكي حاملاً الكأس المقدسة ويقول للشعب: “هذه لامست شفاهكم فتنزع آثامكم”. تذكرنا هذه العبارة بما قاله ملاك الرب لأشعياء النبي : “إن هذه مست شفتيك فانتزع اثمك وكفر عن خطيئتك” (اشعياء 6: 7). عند المناولة نأخذ الججمرة الإلهية الحاملة الحياة التي تطهر الجميع وتحرق غير المستحقين. يسوع هو وحده القادر على محو خطايانا وهو الذي قدم نفسه كفارة خطايانا على الصليب.
بعد المناولة يبارك الكاهن الشعب بالكأس قائلاً: “خلص يا رب شعبك وبارك ميراثك”. يدعو الكاهن المؤمنين شعب الله. نصير من شعب الله عندما نتحد مع يسوع بالمناولة ونصير أخوة له، أي نصير كلنا أبناء الله ونشكل جسد المسيح: “نحن الكثيرون أصبحنا جسداً واحداً لأننا أكلنا الخبز الواحد” (1كو17:10). ثم يدخل الكاهن إلى الهيكل ويضع في الكأس المقدسة ما تبقى من القرابين الموجودة على الصينية وهي الأجزاء التي تمثل العذراء والقديسين … ويقول اغسل يا رب بدمك الكريم خطايا عبيدك المذكورين ههنا بشفاعة والدة الإله وجميع قديسيك”. وحده الرب قادر أن يمحو الخطايا. ذبيحتنا هنا هي استمرار لذبيحة الصليب التي بها محا يسوع خطايانا وسمّرها على الصليب.
“قد نظرنا النور الحقيقي” هذا ما يرتله المؤمنون فيسوع المسيح هو النور والحق ونحن عبر المناولة والاتحاد به نصير في النور، لا بل نصير أبناء للنور والحق ويسكن فينا الروح القدس الذي يحيينا ويجعلنا هياكل له. عندها نسجد للثالوث القدوس بحقٍ.
ثم يبخر الكاهن الكأس قائلاً: “ارتفع اللهم إلى السماوات وعلى كل الأرض مجدك”. هذه صورة لصعود المسيح إلى السماء. هذا الصعود يجري في كل مؤمن بالمناولة بصورة سرية إذ أنه باتحاده بالمسيح أصبح جالساً معه سرياً عن يمين الآب ومستقراً في قلب الله. وبعدها ينقل الكاهن القرابين إلى المذبح ويتلو طلبة الشكر، ونحن نشكر الرب على هذه النعمة التي أعطانا إياها. نشكره لأنه منحنا موهبة التقديس بدمه الكريم.
بعد المناولة وإعادة القرابين إلى المذبح يعلن الكاهن: “لنخرج بسلام..”. يعلن الكاهن نهاية القداس الإلهي ويصرف المؤمنين بسلام. يصرفهم حاملين سلام الرب في قلوبهم وهمم يخرجون إلى العالم، إلى حياتهم اليومية ليشهدوا فيها عمّا شاهدوه ونظروه وعاشوه في القداس الإلهي وليتمموا في هذه الحياة دعوتهم. في بادية القداس الإلهي دعانا الكاهن لأن ندخل الملكوت والآن، في نهايته، يدعونا لأن نعود إلى هذا العالم لنشهد للملكوت ونحيا الملكوت في هذا العالم. هذه هي دعوتنا وعلينا أن نتممها. خروجنا من الكنيسة يشبه خروج التلاميذ إلى البشارة بعد صعود المخلص إلى السماء.
ثم يخرج الكاهن ويقف أمام أيقونة السيد ويتلو هذه الصلاة: “يا مبارك مباركيك يا رب ومقدس المتكلين عليك.. ” يضرع إلى الله أن يحفظ شعبه ويباركه ويقدسه… ويجيب الشعب بالنشيد: “ليكن اسم الرب مباركاً..”. الاسم شيء مهم، لأنه يستدعي صاحبه، وهكذا نبارك الرب عبر مباركتنا اسمه.
أخيراً قبل انطلاقنا يمنحنا الكاهن بركة الله، لأنه بدون بركة الرب ونعمته ورحمته لا نستطيع عمل شيء ولا الاستمرار في دعوتنا. ثم يتضرع إلى المسيح القائم من بين الأموات بشفاعات والدة الإله وبقوة الصليب الكريم و.. لقد كنا في الملكوت ونحن خارجون إلى العالم والله سوف يعطينا خيرات العالم باتكالنا عليه وطلبنا لملكوته أولاً.