الحياة بعد الموت

من كتاب الحياة بعد الموت

لسيادة رئيس أساقفة اليونان خريستوذولس

نقلته إلى العربية الأخت ماريّا قبارة

مازال الموت يستمر أن يكون سرًا، بكل مايُرافقه ويحيط به. تُعرض هذه الحقيقة بطروبارية كنيستنا التي تُرتل في خدمة النياحة:

” يا له من عجب، ماهذا السر، الصائر بنا؟ كيف أُسلمنا إلى الفساد، وكيف ازدوج الموت بنا، فهذا كما كتب بأمر اللّه”.

يرى كاتب تسابيح كنيستنا، الملهم من اللّه والمستنير، ظاهرةَ الموت، وأمامه أحدٌ ما قد مات ويتساءل: “كيف حدث هذا السرّ العظيم الماثل أمامي؟ كيف من الممكن أن نُسَّلم نحن البشر إلى الفساد؟ كيف يمكن أن تتحقق المصالحة بواسطة الموت؟ على كلّ، إنّما يحدث ذلك دائمًا بأمر اللّه وإرادته.

يؤكد كاتب التسابيح الموقر، أنّه يحدث فصل إجباري بين العنصرين اللَذين يتكون منهما الإنسان، الفصل بين الجسد والنفس. النفس التي اتّحدت بجسدنا عندما حُبل بنا، الآن تبارح الجسد. وهذا الرابط المتين الذي قد وُجد مدى حياتنا بين الجسد والنفس، الآن ينحل، وهذا ما تنتهي به الطروبارية، ينحل بإرادة اللّه وأمره.

هناك أيضًا أسرار تُرافق الموت، يستحيل على ناس كثيرون أن يصدقوها، بينما غيرهم يستمرون في إنكارها، أيّ لا يستطيعون أن يجدوا لها أجوبة علميّة، ومن غير الممكن للإنسان الذي يؤمن فقط بمنطقه أن يقترب من هذا المجال، فينتهي به الحال بلا شكٍ إلى الإنكار والتجديف.

مع ذلك، كُثرٌ أولئك الذين يؤمنون بأن “شيئاً” ما يحدث بعد الموت. وبأن هناك “استمراريّة ما”. بالطبع، من هو بعيدٌ عن كنيستنا ولا يقرأ الكتاب المقدس وكتب الآباء القديسين، يكون عاجزًا أن يتكلم عن كلّ ماهو بعد الموت.

كثيرون ممَّن تعثرهم ظاهرة الموت، يتساءلون: “كيف يمكن أن تؤول صورة اللّه، التي هي الإنسان والتي كرَّمها اللّه وجبلها لا بكلمته الخالقة بل بكلتا يديه أيضًا، مع الموت إلى الفساد. يتمتع الإنسان بنفسٍ لا تموت، كما يصفه الكتاب المقدس بطريقة بشريّة، وكصورة لله يملك العنصرين والسمتين الإلهيتين الأساسين: العقل والحريّة. والإنسان بالموت يؤول إلى حالة الفساد. أهذا لأنّ الموت، من وجهة نظر أولى، يبدو كنهاية رقاد وانحلال للصورة الإلهية؟. بهذا التفكير ألَّف أب كنيستنا العظيم، القدّيس يوحنا الدمشقي، طروبارية جميلة يتكلم فيها عن إنسان ما يتأمل أخاه الذي مات ويقول: “لهي كآبة كبيرة ونواح ونحيب، عندما أريد أن أفطن ما هو الموت، وعندما أشاهد صورة اللّه؛ الإنسان، الذي يعيش بكليته ممتلئاً مجداً وشرفاً، الآن جثة هامدة، تُرى الآن داخل القبر محرومة من حضور النفس، خالية من الجمال الباهر، عديمة أيَّ بهاء”

إذاً، ماهو الموت؟ أهو المنتهى أم نقطة الانطلاق؟ أهو نهاية أم بداية؟

الإنسان بطبيعته ينفر من الموت، لأن هناك، في داخله شعلة الخلود والأبديّة. بالطبع، كثيرٌ من الناس ينفرون من الموت بسبب مفاهيم سيئة ويعتبرونه نتناً كلَّ نقاش له علاقة به. بينما الموت هو الحدث الأكيد الموجود في العالم. مع ذلك، هناك أناس لا يريدون أن يسمعوا من أحد كلامًا عليه.

الموت نتيجة السقوط والخطيئة

لم يوجد الموت من بدء حياة الإنسان، فالإنسان الأول كان قابلاً للفساد ولعدم الفساد، أيّ بإمكانه أن يموت، وبإمكانه ألاّ يموت. إن يحفظ وصايا اللّه، لن يموت، وإن يُخالفها سيقبل الموت. وبناءً عليه لو لم تسقط الجبّلة الأولى لما حصل الموت للجدّين الاولين، فالموت إذًا ثمرة الخطيئة ووُجد في العالم.

المقاطع الكتابية التالية ذات أهمية؛ الأولى من حكمة سليمان: “فإنّه خلق كل شيء لكي يكون وإن خلائق العالم مفيدة وليس فيها اسمٌ مهلك ولا ملك لمثوى الأموات على الأرض لأنَّ البّرَ خالد”. كلام العهد القديم واضح، أيّ أنَّ اللّه لم يصنع الموت، وهذا جواب لأولئك الذين يتساءلون: كيف يكون الموت من عمل اللّه كعقاب للبشر بسبب الخطيئة التي سقطوا فيها؟ هذا تعليم لاهوتي سكولاستيكي لكنيسة الروم الكاثوليك الغربية، المتعارضة مع الكنيسة الأرثوذكسية التي تفسّر واقع الموت بشكل مختلف. فلنرَ مقطعًا من رسالة الرسول بولس إلى رومية: “من أجل ذلك كأنّما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم بالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع” ، وكلام الرسول دقيق ولا يحتاج إلى تأويل، وأنّ الموت دخل إلى العالم بسبب خطيئة إنسان واحد، ومن خلاله اجتاز إلى البشر، فالموت إذًا حدثٌ لاحق، هو ظاهرة دخيلة على حياة الإنسان، ولم يكن موجودًا في بدء الخليقة.

عندما نقول “بسبب الخطيئة دخل الموت” يجب أن ندرك نوعين للموت. يُدعى الأول الموت الروحي الذي يعني انفصال الإنسان عن اللّه، والثاني الموت الجسدي ويعني انفصال النفس عن الجسد. الموت الروحي دخل للتوّ بسقوط الجبّلة الأولى، ولكن اللّه لم يرد أن يصير الموت الجسدي في الوقت نفسه مع الموت الروحي، لهذا عاش آدم وحواء مئات السنين بعد موتهم الروحي الذي قد سقطا به. السقوط والخطيئة جلبا الموت كنتيجة طبيعية لهما وليس فقط كعقاب.

يستطيع الطبيب أن يقول للمريض عندما يفحصه: “يجب أن تتبع حمية، لأنّ السكر عندك عالٍ، فإلّم تفعله فأنت عرضة للخطر، وستموت من السكر”، إذا فكر المريض وخرج من عند الطبيب عاملاً بمعتقداته الشخصية، سيقول لنفسه “كيف أعمل حمية، هل هذا سهل؟”، فيقرر لوحده أن يأكل، ويعود ليأكل ما كان يأكله، وبعد فترة يموت من السكر، فهل الطبيب هو المسؤول في هذه الحال عن موت المريض؟

وقال اللّه للجبّلة الأولى: “أطيعوني، فإنكم إذا لم تفعلوا تموتون”، لم تُطع الجبّلة الأولى اللّه وماتا، ولا يُردُّ سبب موتهما إلى اللّه ، بل موتهما هو ثمرة الخطيئة بعد السقوط وعاقبتهما.

يقول كتابنا المقدس أن اللّه بعد السقوط أعطى جبّلته الأولى “مطارفَ جلديّة”، فما هي هذه المطارف الجلديّة؟

يقول الآباء القدّيسون إنّها الفساد والفناء اللَذين أَوجدا الأمراض التي بسببها نموت، وأَوجدا الأحزان التي تلد بها النساء. كلّ هذا عواقب السقوط، فآدم وحواء قبل أن يخطأا لم يكونا يعلمان أيّ شيء عنها. كانا يعيشان في حالة أخرى، نستطيع فقط أن نتخيلها مادام ليس لنا خبرة مثلها في حياتنا. نحن أناس مابعد السقوط ولسنا ما قبله

إن قبلنا بلاهوت كنيسة الروم الكاثوليك الاسخاتولوجي، أيّ أنّ الموت هو عقاب اللّه سننقاد إلى مآزق أخرى، كمثل أن نقول، إنّ الشيطان الذي حرَّض على سقوط الجبّلة كان أداة اللّه.

يقول القدّيس يوحنا الدمشقيّ: “بسبب الإنسان دخل الموت -بسبب سقوط آدم- وكذلك بقية العقوبات”، الآباء القدّيسون واضحون عندما يقولون أنّه: “بسبب الإنسان دخل الموت إلى العالم، لا بسبب اللّه ”

عندما نقول إنّ الخطيئة الأصلية ورثها البشر، لا نعني الإحساس بالذنب الذي ينقله الإنسان إلى الآخرين بسبب الخطيئة الأولى. بل نعني نتائج خطيئة الجدّين الأصلية الموروثة. لقد مرضت طبيعتنا بعد تلك الخطيئة، وهذا المرض نرثه.

هذه الحقائق التي قرأناها في مقاطع كثيرة في كنيستنا، نجدها مصوغة بشكل رائع في مقاطع ليتورجيا القدّيس باسيليوس الكبير الإلهيّة. يتوجّه الكاهن إلى اللّه قائلاً: “عندما جبلت الإنسان ياإلهي بأخذك ترابًا من الأرض، ووضعته في فردوس النعيم، وعدته بالحياة الخالدة والتمتع بالخيرات الأبديّة إن حفظ وصاياك. لكن عندما خالف وصاياك أنت الإله الحقيقي وانقاد بسبب غواية الحية، أُميت بزلاته، نفيته وأرسلته مرة ثانية إلى الأرض التي منها أُخذ، أي مات”

كان لآدم إمكانية الخلود وإمكانية الموت، لو لم يخطأ لما تعرض للموت، هذا الوضع الصحيح. وقد ظهرت هرطقات كثيرة في عصر آبائنا القدّيسين، منها تقول: “إن آدم المجبول أولاً خلقه اللّه فانيًا، أي جُبلَ ليموت سواء أَخطأ أم لم يخطأ، أي سيبارح جسده لا بسبب الخطيئة بل بسبب تركيب طبيعته وبنائها”، هذا يعتبر هرطقة، ودعا الآباء أن يكون مفروزًا كلّ من يؤمن بهذا. وقد ظهر أيضًا هراطقة مختلفين نادوا بالمعنى المعاكس، أي أن اللّه خلق آدم الفاني؛ وبالتالي اللّه هو خالق الموت.

قانون المجمع الكورنثسي المحلي “رقم120” والذي تبنّاه المجمع المسكوني بحث في هذا الموضوع وشغل آباء كثيرون وهذه آراء البعض منهم:

ثيوفيلوس الأنطاكي يقول: “إنّ الإنسان موجود في الوسط، ليس فانيًا بالكليّة وليس خالدًا بالكليّة، ولكنه قابل للحالتين”.

يقول القدّيس غريغوريوس النيصصي بوضوح: “إنّ الموت بالنسبة للبشر كان التناول من تلك الثمرة المحرمة”.

القدّيس نيقوديموس الآثوسي يقول: “بما أن آدم تذوّق شجرة المعرفة، دخل في الفساد، وبالتالي صار فاسدًا وفانيًا بعد أن كان عديم الفساد والفناء، والأسوأ من ذلك أنّه لم يفسد آدم وحده، بل نقل هذا الفساد الذي أصابه أولاً إلى كلّ جنس البشر” .

فالإنسان منذ البدء لم يعرف الموت، بل جاء أثناء مسيرته. جاء كغريب، كعنصر دخيل، كنتيجة للخطيئة التي جلبت الموت الروحي للحال، وفيما بعد هذه جلبت الموت الجسدي.

وبسبب دخول هذا الموت، لا يريد الإنسان أن يموت بل يريد بجميع الطرق أن يطيل حياته على هذا الكوكب، ناظرًا إلى الموت نظرته إلى عدوٍ كبير “آخر عدو”، كما يصفه الرسول بولس.

تشّبه رؤيا يوحنا الموت بجواد أصفر، وفارس يمسك سيفًا وينثر الجوع والأمراض الوبائية، ويقضي على الحياة، ويتبع هذا الجواد الجحيمَ فاتحًا فاه ويبتلع الأموات بسرعة.

أما الرسامون فيصّورون الموت مثل الهيكل العظمي الذي يمتطي جوادًا ويمسك بيده منجلاً يحصد به حياة الناس.

يتخيله اليونانيون القدماء مَضيقاً ويدعونه “χάροντα”، فيه مركب ينقل البشر إلى بحيرة “Αχερουσίας”، إلى الجحيم؛ أيّ من الحياة إلى الموت.

لماذا يموت الإنسان؟

إن واقع موت الإنسان، يعود إلى سببين، أولاً إلى الخطيئة، وثانيًا إلى عدم التوبة. يقول القدّيس سمعان اللاهوتي الحديث: ” لو قال آدم: “حقًا ياسيد، قد خالفت وصيتك، خطئت، سمعت نصيحة المرأة وخطئت كثيرًا، فعلتُ بحسب ما قالته لي وخالفت وصيتك، سامحني ياسيد واغفر لي”، لكان خلص. ولكان حفظ خلود النفس والجسد. أمّا الآن فقد جلبت الخطيئة الموت. لهذا فإنّ الكتاب المقدّس إذ يصف حالة جنس الجبّلة الأولى التي تكَّونت بعد الخطيئة. وبالتالي حالة كلّ الجنس البشري. يتكلم عن “الألبسة الجلديّة”، لمن ياترى هذه الألبسة الجلدية التي أحاط بها اللّه البشرَ بعد السقوط؟

يفسر آباء كنيستنا هذا الاصطلاح بخاصيّة الفناء. الفساد والفناء اللَذان هما نتيجة خطيئة الجدّين الأولين وثمنها، هما الألبسة الجلديّة التي سُربل بها البشر بعد الخطيئة.

كان اللّه قد أنذر جبّلته الأولى سابقًا في الفردوس، بأنّهم إن أكلوا من ثمرة معرفة الخير والشرّ سيموتون. وبكلامنا على موت الجبّلة الأولى نتطرق إلى نوعين من الموت: الأول هو انفصال الإنسان عن اللّه وهو الموت الروحي، والآخر هو فساد الجسد وانحلاله، أي الموت الجسدي. دخل الموت الروحي لحظة العصيان، أمّا الموت الجسدي فدخل بعد ذلك بحين. خلق اللّه هذا البعد بين الموت الروحي والجسدي مريدًا أن يعطي الإنسان وقتًا للتوبة من جديد. إذًا فقد حُدَّد للموت الجسدي أن يحدث متأخرًا وليس في الوقت نفسه مع الموت الروحي. وللهدف نفسه كلّ العوائق والأحزان والتجارب تخدم الإنسان المجَّرب بها في حياته على الأرض، من أجل توبته.

يعطي الآباء القدّيسون معنى كبيرًا للموت الأول، هذا الذي يعتبرونه بشكل رئيسٍ موتًا. يعلِّم القدّيس مكسيموس المعترف أنّ الموت هو الانفصال عن اللّه. فالموت الروحي إذًا هو الموت بالمعنى الوضعيّ للكلمة. إلاّ أنّ البشر لا يعطونها بالأحرى، الأهمية الواجبة.

عندما قصَّ ربنا مثل الابن الضال قال عن الابن الأصغر الذي قد رحل عن أبيه مايلي “… لكن قد وجب أن نتنعم ونفرح لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوُجد”. هنا واضح أنّ الرّب يقصد الموت الروحيّ.

من خلائق اللّه الأولى مات الشيطان روحيًا، عصى اللّه وتمرّد عليه. يتكلّم القدّيس غريغوريوس بالاماس على هذا الموت الأول ويقول إنّ الشيطان أول من خضع له.

على الموت الروحي يتكلّم الرّب مرات عديدة. فقد قال لتلميذه الذي طلب منه أن يدفن أبيه الذي مات “دع الموتى يدفنون موتاهم”، أيّ دع الموتى الروحيين يدفنون الموتى الجسديين. ولآخر يقول الرب: “الحق الحق أقول لكم الذي يسمع كلامي ويؤمن بمن أرسلني فله الحياة الأبدية”.

يمكن للإنسان أن يبطل الموت الروحي في كلّ لحظة، مادام عضوًا في كنيستنا المقدّسة، وهذا لأنّ المسيح هو أول من أبطل الموت الروحي من خلال الكنيسة وأسرارها.

إذاً عندنا الموت الروحي والقيامة الروحية، عندنا الموت الجسدي مع القيامة الجسدية. أيّ أننا نموت أولاً روحيًا وإذا أردنا أن نقوم روحيًا فباشتراكنا بأسرار الكنيسة. بينما سنقوم بعد الموت الجسدي جسديًا في المجيء الثاني.

تُعجِّل الخطيئة الموت الجسدي. رغم أنَّ الموت الجسدي ليس حالتنا الطبيعيّة منذ البدء، فالإنسان لهذا السبب لا يريد أن يموت، وهذا الموت قد أُبطل جوهره، وسيبطل في الحياة والملكوت الآتيين.

لذا يقول القدّيس بولس: “آخر عدو يبطل هو الموت”. لدينا اليوم الموت الجسدي، لكن قد لا نملك الموت الروحي. الموت الجسدي وقتيّ، لهذا يجب ألاّ نتكلم على موت وأموات، بل على نوم وراقدين، هذا هو إيماننا الأرثوذكسي. لذلك نحن لا نتكلّم على مقابر بل على مراقد. عندما قالوا للمسيح وقتًا ما إنّ ابنة ياييرس ماتت، قال الرّب: “الصبية لم تمت، إنما هي نائمة، فضحكوا منه”، لأنَّ الكلّ كان يظن أنّها ميتة. لقد دعا المسيح الموت نومًا، لأنّه أبطل سلطانه “لكي يبيد بالموت ذاك الذي له القدرة على الموت أيّ ابليس”، قام من بين الأموات، فأبطل الموت.

ينبغي أن نعلم كيف أنّ المسيح دُعي في الكتاب المقدّس “بكر كلّ خليقة”، أيّ أنموذج الإنسان، وبالتالي كلّ مايسري على المسيح، يسري على جميعنا، مادُمنا أعضاء جسد المسيح، وهكذا نشترك في مجّده وقيامته. هناك تسبحة رائعة في يوم الجمعة العظيمة تقول: “الجحيم لا يملك ولا يسود أبدًا على جنس البشر”، أيّ إنّ الموت يسود بشكل مؤقت لكنه لا يشكّل حالة ثابتة أبديّة.

إذاً لدينا الجسد والنفس اللَذان بهما معًا نتابع جهاد الفضائل، وبكليهما أيضًا نخطَأ، لذلك يكون حكم اللّه بهذين العنصرين، إما أن يخلصوا وإما أن يدانوا أبديًا بقيامة الأجساد التي ستحدث مع بوق الملائكة عندما يبوّق قبل الحضور الثاني.

طبعاً، يتكلم الآباء القديسون على معقولنا (φρόνημα) الجسدي، ولكن الذي ليس له علاقة مع جسدنا. المعقول الجسدي له مفهوم روحي. يميّز الرسول بولس المعقول الجسدي بالغرور والعُجب والنميمة والخبث والكراهية. فالمعقول الجسدي شيء والجسد الذي نقتنيه شيء آخر. ينصح الرسول والآباء أن نبتعد عن المعقول الجسدي لأنه يتعارض وسلوكَ الروحِ.

طريقة موتنا

نعرف بالتأكيد إن هناك طرقًا كثيرة تنتهي بها حياة الجنس البشري. بَيْدَ أن كثيرين اعتادوا أن يفصلوا طرقهم إلى طرق خيّرة، وطرق شريرة. طرق عادلة، وطرق خاطئة رابطين طريقة الموت بطريقة حياة الإنسان. فإذا لم يكن الموت حسنًا، نقول إنَّ هذا يعود إلى سوء الإنسان في حياته، أو بما أنّه رحل بموت فجائي فهذا يعني أنّه لن يكون في حالة جيدة في الحياة الأخرى. لذلك فالدعوات التي يطلبها الناس لأنفسهم هي أن يحصلوا على موت حسن، فمن بعض التعابير التي يستعملها الشعب مثلاً: ” ألاّ أموت واقفًا أو أن أموت بصحتي”، يطلب الإنسان بهذه الدعوة ألاَّ يموت من المرض. آخرون يدعون ألاَّ يموتوا بطريقة فجائية كمثل حادث مرور أو في إحدى الحروب. نحتاج أن نتعمّق لكي نرى العلاقة بين طريقة موتنا وطريقة حياتنا، وأيضًا مع الحالة التي سنؤول إليها بعد الموت.

تصلي كنيستنا المقدّسة أولاً لأن تكون “أواخر حياتنا مسيحيّة” وطبعًا “بلا وجع ولا خزي، وبسلام”، هذا ما تعبّر عنه الصلاة أيّ الرغبة التي نصلّي بها ليهبنا الرّب نهايات مسيحيّة. أيّ نطلب من اللّه أن نموت “بسلام” في إيماننا.

هذا لايعني أنّ الموت الذي تصلّي كنيستنا من أجله هو الموت الوحيد. ولايعني أيضًا أنّ كلّ أنواع الموت الأخرى الموجودة تنذر بشيء يتعلق بحالة النفوس. وعلى الأكثر، مادامت طريقة موتنا ليست حسنة فهي نوع من عقاب اللّه لأحد الخاطئين. يجب أن نقول مسبقًا إنّه لا أهمية كبيرة لطريقة موتنا بالنسبة للكنيسة بقدر ما هناك أهمية لطريقة حياتنا. تعتني كنيستنا بأن تعيش مسيحيًا وتصلّي وتصيغ دعوتها أن نموت مسيحيًا.

مرات كثيرة – وهذا لا نستطيع أن ننكره – طريقة موتنا هي نتيجة لطريقة حياتنا. دون أن يكون هذا جزمًا. في العهد القديم آية: “الخطأة يميتهم شرهم”، تعني أنّ موت الخاطئين شرّير. وتفسّر الكنيسة كلمة “Πονηρός ” بأنّ الخاطئ يرحل من هذا العالم غير تائب. إذا متنا غير تائبين حينئذٍ سيكون هذا الموت مفجعًا، وهذا الموت يحكم مسبقًا على حالة نفوسنا.

أين تذهب النفوس؟

إنّه لجدير بالاهتمام أن نرى أين تذهب النفوس في المرحلة التي تتوسط الموت والمجيء الثاني؟ لكي نجاوب على هذا السؤال نحتاج إلى أن نعرف من البدء أنّه كما قال أب كنيستنا القدّيس أثناسيوس الكبير: “إنه سرٌ غريبٌ ورهيب، مخفي عن البشر”.

استنادًا إلى الكتاب المقدّس والتقليد الآبائي فلنتلمس طريق النفوس ومسيرتها اللتين تَلِيَا موت الجسد. يتكلم الكتاب المقدس على الجحيم، فيجعلنا نفهم أن هناك مكانًا حيث تتكدس فيه نفوس الخطأة، فيه يسود الظلام والضباب. يتكلّم الكتاب المقدس على الفردوس أنّه مكان انتظار الأبرار بعد الحضور الثاني.

القدّيس أثناسيوس الكبير أغنى هذا الموضوع بقوله لنا: “نفوس الخطأة موجودة في الجحيم، أما نفوس الأبرار فهي قرب اللّه، بعد حضور الرّب الثاني ستوجد في الفردوس”. في الواقع يعلّمنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم بأنّه “بالموت، تُقاد النفوس لمكان ما”، ماهو ياترى هذا المكان؟

كلمة مكان ” χώρος ” تجعلنا نفكر بأنّه حالة تشبه حالة نعيشها. لأنّ ” χώρος ” يوجد في هذا العالم، ذي المفهوم الحجمي؛ ومفهوم الزمن دنيوي. لكن اللّه خارج الزمان والمكان. وبالتالي بُعدا المكان والزمان لا يتلاءمان مع الحياة الروحية الكائنة بعد الموت. بل يتلاءمان مع هذه الحياة الأرضية. سنقع في الكتاب المقدس على تعابير تعطينا انطباعًا بأنّها تتكلّم على مكان ما، مثلاً:

في العهد القديم ” Δικαίων ψυχαί εν χείρι θεού”، أيّ نفوس الأبرار موجودة في يديّ اللّه. أترى لله أيدٍ؟ النفوس لا تشغل مكانًا، ليس لها هيئة. في مثل الغني ولعازر، ربنا نفسه يقول: “إن نفس الفقير لعازر هي في أحضان ابراهيم، وهذه خاصيّة بشريّة وتعبير بشري عاطفي، أيّ النفس موجود

http://www.orthodoxlegacy.org/Year2/XristodolosLifeDeath.htm