إيقونة الميلاد ـ بقلم : المطران بطرس المعلم

25/12/2008 18:58:45

“في البدء كان الكلمة…والكلمة كان الله…والكلمة صار بشرًا، وسكن بيننا…فرأيْنا مجده” (يو 1: 1-14). فهذا الذي “سمعناه (بآذاننا)، ورأيْناه (بعيوننا)، وتأملناه (بأذهاننا وقلوبنا)،

سيادة المطران بطرس المعلم

ولمسناه بأيدينا” (1 يو 1: 1)، هذا الذي “بذل نفسه لأجلنا، ليفتدينا من كل إثم…فتجلّى بظهوره لطفُ الله مخلصنا ومحبته للبشر، فخلَّصَنا، لا لأعمالِ بِرٍّ عملناها، بل بحسب رحمته” (تي 2: 14 ؛ 3: 4-5)، هذا الإله الآتي الينا “في الجسد” (رو 9: 5)، هو محور عيد الميلاد، ومرتكز السرّ الخلاصي العظيم، الذي تحتفل به الكنيسة في عيد الميلاد، وتمثّله لنا إيقونة الميلاد، تجسيدا مكثّفا لإيمانِ المسيحيين وتأملهم وتقواهم.
***
الإيقونات البيزنطية للميلاد أكثر من أن تحصى. ولكنها، مهما تنوعت فيها التفاصيل، فهي جميعا تلتقي على عناصر ثابتة مشتركة، تبرزها ريشة الرسام بتمايز، وفقًا لعبقرية الأشخاص في كل زمان ومكان. أما نحن فقد اخترنا لدراستنا إيقونة روسية “عصرية”، تميّزَ صاحبُها جوفانّي مِتزاليرا، الإيطالي المولد والجنسية، بحبّه الشديد للحفاظ على روح التقليد الإيقونوغرافي الأصيل، في كلا فرعيه البيزنطي والروسي، الذي يمثّل وجهًا من أجمل وجوه التعبير في الفن الديني المسيحي. وهذه الإيقونة هي واحدة من مجموعة إيقونات للرسام نفسه، تصدرت المعرض الخاص الذي أقيم عام 1988 في رومة، في ألفيّةِ تنَصُّر روسيا.
***
في أعلى الإيقونة، وتحت عنوانها “ميلاد المسيح”، نرى السماء تنفتح ونجمًا ينزل منها، فيستقرّ فوق المغارة المظلمة، ليدلّ على النور المستتر فيها: “وُلِدتَ يا مخلِّص، مستترا في مغارة. إلا أن السماء أعلنتكَ للجميع، إذ أبرزَت النجمَ بمنزلة فمٍ لها…” (من ترانيم غروب العيد). النجم، وإن صامتًا، فكأنه فم للسماء يتكلم، كما ستنفتح السماء يومًا، فيُسمَع صوتها في شهادة علنية حين العماد وحين التجلّي: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرت” (مت 3: 17 ؛ 17: 5).
***
إلى اليمين بدء مشهد الميلاد كما رواه مطلع إنجيل لوقا (2: 1-20): ملاك هابط من السماء، ينحني فوق رعاةٍ بُسَطاء، يحرسون قطعانهم في الليل، فيذيع لهم البشرى: “لا تخافوا، إني أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. اليوم وُلد لكم مخلص، هو المسيح الرب”. – وفيما الرعاة، وحتى أغنامُهم، ينظرون في دهش الى العلاء، إذا بجوق من الملائكة (من الجهة اليسرى) ينشد فرح العيد: “المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة”. – هذا الذي اعتلن، قبل الجميع، للرعاة الفقراء، الساهرين على غنمهم، أليس هو نفسُه الراعيَ الصالح، الآتي ليبحث عن الخروف الضالّ، ويحمله على كتفيه، ويعيده الى الحظيرة (يو 10: 1-16) ؟ أليس هو أيضا، وفي الوقت نفسه، “حَمَلَ الله، الذي يرفع خطيئة العالم” (يو 1: 29)، “حَمَلَ فصحِنا الذي ذُُبِح” (1 كو 5: 7)؟ فالميلاد إذن، وهذا ما يجب ألا ننساه أبدا، إنما هو، في العهد الجديد، باكورة اعتلانات لطف الله الحسيّة وتجلّيات حبه لنا، التي لن تكتمل الا بالفصح، أي بالموت والقيامة.
***
وفي مقابل الرعاة نرى المجوس من الجهة اليسرى، وهم الذين ذكرهم متّى في مطلع إنجيله (2: 1-12). لم يذكر الإنجيل عنهم إلا أنهم “مجوس”. أما التقليد فحفظ عنهم أنهم ملوك، من فارس، عارفون بالفلك…- الرعاة كانوا باكورة اليهود الذين كُشِف لهم السر العظيم، اما المجوس فكانوا باكورة “الأمم” أي الوثنيين. الرعاة كانوا من الشعب البسيط، اما المجوس فملوكٌ يعترفون بملك، وله يسجدون: “إن المجوس ملوك فارس، لما عرفوا جليًّا أن الملك السماوي قد وُلِد على الأرض، انقادوا لكوكب ساطع، فأسرعوا الى بيت لحم…فسجدوا له الهًا متجسدا…وقدموا له هدايا كريمة: ذهَبًا خالصا بما أنه ملك الدهور، ولبانًا (أي بخورًا) لأنه إله الكل، وكمائت لثلاثة أيام قدموا مُرًّا (من أطياب التحنيط) للمنزّه عن الموت…” (من ترانيم غروب العيد).
***
وفي أسفل الإيقونة الى اليمين، نرى رجلا جالسا على الأرض، يسند بذراعه رأسًا ساهِم الوجه. هويته، كما القديسون دائما في الإيقونات البيزنطية، مثبتة واضحة: إنه “القديس يوسف”. عيناه تنظران الى أبعد مما أمامهما، وكأن ذهنه شارد الى عالم آخر: “هذا ما يقوله يوسف للبتول: يا مريم، ما هذا الذي أشاهده فيك ؟ إني حائرٌ ذاهلٌ داهشُ العقل… يا مريم، لقد جلبتِ عليّ العار بدل الكرامة، والحزن بدل السرور…من هيكل الرب تسلمتكِ، من أيدي الكهنة، منزهة عن كل لوم. فما هذا الذي أشاهده فيكِ ؟” (من ترانيم بارامون العيد). لقد ظنّ البعض من مفسِّري الإيقونة أن هذا هو فعلاً ما يفكّر به يوسف في الإيقونة، وظنّوا أن الشخص الواقف أمامه إنما هو الشيطان، جاء ليجرّبه ويلقي الشكوك في قلبه. ونظن، بكل تواضع، أن هذا الشرح غير صحيح. فما قرأناه الآن كان قبل أن يُكشَف السر ليوسف، اما الآن “فقل لنا يا يوسف، كيف التي تسلمتَها من الأقداس فتاةً بتولا، تأتي بها الآن حبلى الى بيت لحم ؟ فيجيب قائلا: لقد فتّشتُ الأنبياء، وأوحى اليّ الملاك، فأيقنتُ أن مريم إنما تلد الإله ولادة لا تفسَّر، وسيأتي مجوس من المشارق ليسجدوا له…” (المرجع نفسه). فيوسف الآن هو غير يوسف الأمس. إنه غائص في تأملاته، يستذكر تاريخ الخلاص ورموزه ونبوءاته التي تتحقق اليوم، ويتأمل، في صمت ودهش، شرف مكاشفته بالسر العظيم، وشرف المسؤولية التي خصّه الله بها، بأن يكون الأبَ الشرعي للطفل الإلهي، والحارسَ الأمين لأمّه العذراء: ” يا يوسف المجيد، تزيّنتَ بسيرةٍ نزيهة، فغدوتَ حارسا للبتول، ودُعيتَ أبًا للطفل المولود، فتعظّمتَ بهذه التسمية الشريفة” (من سَحَر عيد القديس يوسف، في الأحد الذي بعد الميلاد).
***
وهذا الواقف أمامه، مَن تراه إذن يكون ؟ ظنّ البعض أنه أحد الرعاة، لأن أمامه بعض الغنم. والصحيح غير ذلك. فالرعاة الآخرون في الإيقونة هم من الشباب، اما هو فشيخ قد حنَتْ ظهرَه السنون، ولباسه يختلف عن لباسهم. هم وخرافهم يتّجهون نحو المغارة، أما هو وأغنامه فنحو يوسف. فمَن هو إذن ؟ نستشفّ الجواب من أول نشيد تستهلّ به الكنيسة احتفالات العيد: “هلمّ نبتهج بالرب، مذيعين السر الحاضر، فإنه قد زال سياج الحائط المتوسط، والحربة اللهيبية تنقلب راجعة، والشيروبيم يبيح عود الحياة. أما أنا فأعود الى التمتع بنعيم الفردوس، الذي نُفيتُ منه قبلا بسبب المعصية…” (القطعة الأولى من غروب العيد). هذا يعيدنا الى بدء الخليقة، الى جنة عدن، الى معصية آدم، الإنسان الأول، وطرده من الفردوس (تك 3: 23-24)، بعد أن كسا الله عري آدم وحواء أقمصة من جِلد (21). أفليس هذا الغريبُ الغامض، الشيخُ الأبيض اللحية، المتوكئ على عصا، المتدثر بعباءة من جِلد، أليس هو آدم بالذات؟ ومَن أولى منه ان يشهد ميلادَ آدمَ الجديد، المسيح، رأسِ الخليقة الجديدة ألمخلَّصة، كما كان هو رأسَ الخليقة القديمة، التي أهلكها بالمعصية؟ ها هوذا آدم إذن يلتقي أخيرا يوسف: أليس إلى آدم تتتهي سلسلة نَسَب المسيح كما أوردها لوقا 3: 23-38 انطلاقا من يوسف؟ ” هلمَّ بنا لنشاهد كيف أن بيت لحم قد فتحَت عدْنًا…” (البيت، في سَحَر العيد). أما الخراف التي أمام آدم، فتذكّر بأول ذبيحة قدّمها لله إنسانٌ على الأرض، يوم قرّب هابيلُ ) ابنُ آدم)، من أبكار غنمه ومن سِمانها، تقدمة للرب (تك 4: 4). أليس أن تلك الحملان، بل هابيلَ نفسَه، أولَ راعٍ وضحية على الأرض (4: 4)، هي وهو أولُ رمز للمسيح الحمَل والراعي؟
***
ولكن جنة عدن لا تكتمل بدون حواء. فها هي حاضرة في الزاوية الأخرى، مقابل زاوية آدم. وأيُّ امرأة أَولى منها بأن تكون أولَ مَن ترى وتلمس وتقبَل وتقبِّل ذاك الذي وُعِدَت قديما بأن يأتي من نسلها، ليسحق رأس الحية (تك 3:15) ؟ ها هي، بصفةِ “قابلة”، تغسل الوليد الجديد وتتحسّسه بكل كيانه وكيانها، فترى فيه، وإنْ طفلا، اللهَ “الكائن”، هويته مكتوبة حول هامته، فتتيقن أنه المخلص الموعود، الذي انتظرَته قرونا طويلة. اما هذا الغسل فليس غسلا عاديا: إنه تمثيلٌ مسبق لغسل العماد. فهي تنتشله من الماء، كما يُنتشَل الطفل من جرن المعمودية، وهل المعمودية إلا رمز الى المشاركة في موت المسيح وقيامته (رو 6: 3-5)؟ وهذا تذكير بما قلناه أعلاه من ربط الميلاد بالفصح كسِرٍّ واحد. أما الفتاة التي وقفت تساعد حواء في عملية الغسل، فهي، بحسب العرف، صالومي، قريبة مريم، التي ستكون يوما أُمّ الرسول يوحنا الحبيب، الذي اليه سيوكِل يسوعُ أمَّه وهو على الصليب.
***
كل هذا ما هو إلا الإطار الذي يحيط بجوهر الإيقونة في الوسط. وجوهر الإيقونة في الوسط، بل قلبها، إنما هو مريم وطفلها، تلك التي اصطفاها الله وطهّرها، واصطفاها على نساء العالمين (سورة آل عمران: 42)، وجعلها وابنها آية للعالمين (سورة الأنبياء: 91). “هلمَّ يا مؤمنون، لننظر أين يولد المسيح، ولنتبع إذن الكوكب إلى حيث يسير…”. بهذه الترنيمة الجميلة تستهلّ الكنيسة ترانيم صبيحة العيد، وتدعو المؤمنين إلى حيث وُلِد المسيح. فإلى هناك. ها هو الطفل الآية، الذي رأيناه قبل قليل بين يدَي الغاسلة. إنه “الكائن” نفسه، الذي “وهو في صورة الله، لم يعُدَّ مساواته لله غنيمة، بل لاشى ذاته، آخذًا صورة عبد، صائرا شبيهًا بالبشر، فوُجِد كإنسان في الهيئة، ووضع نفسه، وصار طائعًا حتى الموت، بل موتِ الصليب” (في 2: 6-8). مُذهِلٌ هذا النزول الصاعق، والتماهي مع البشر، والتواضع والتلاشي، الذي أفضى به إلى الموت. ها هو في مذود، لأن مربم، حين “تمّت أيام وضْعها، ولدَت ابنها البكر، فقمّطَته وأضجعَته في مِذْوَد، لأنه لم يكن لهما (لها وليوسف) موضع في النَّزل” (لو 2: 6-7). في المِذوَد، أي مَعلف البهائم، وقربَه ثور وحمار يدفئانه بنفَسَيهما: “الثورُ عَرفَ مالكَه، والحمارُ معلفَ صاحبه، لكن إسرائيل لم يعرف، وشعبي لم يفهم” (أش 1: 3). “جاء إلى ذويه، وذووه لم يقبلوه” (يو 1: 11). “أيها الطفل المُضْجَع في مِذوَد…إن المجوس أخذهم الدهش، لا من صوالجة وعروش، بل من المسكنة القصوى، إذ أيُّ شيء أحقر من المغارة، أم أيُّ شيء أوضعُ من القُمُط، التي فيها تلألأ غنى لاهوتك؟” (نشيد الإصغاء في سَحَر العيد). أجل، الطفل مقمَّط في المِذوَد، ولكن أليس المِذوَد منذ الآن بهيئة قبر، والقُمُط بهيئةِ لفائفِ الكفَن؟ أليس ذلك تمثيلاً مسبقًا للدفن بعد الموت على الصليب؟ لذلك، وبعد هذا التنازل والتلاشي حتى الموت، يعود كما النسر بخفقةِ جناحٍ رائعة، فيحلّق الى حيث كان في مجده الأول: “لذلك رفعه الله رِفعةً فائقة، وأنعم عليه بالاسم الذي يفوق كل اسم، لكي تجثو لاسم يسوع كلُّ ركبة في السماوات وعلى الأرض وتحت الأرض، ويعترف كل لسان بأن يسوع المسيح هو الرب، تمجيدًا لله الآب” (في 2: 9-11).
***
هي العودة، مرة أخرى، الى الرباط الوثيق ما بين الميلاد من جهة، والفصح ( اي الموت والقيامة) من جهة أخرى. فالمسيح لم يأتِ الينا سائحا في نزهة ترفيهية، بل غاص في أعماق طبيعتنا الساقطة ليرفعها ويؤلّهها: أراد الإنسانُ (آدم) أن يصير إلهًا فهوى، يقول الآباء، فاتّخذ الله طبيعتنا، وصار إنسانا، ليصير الإنسان إلها. ولذلك “قال المسيح عند دخوله العالم: ذبيحةً وقربانًا لم تشأ، لكنك هيّأتَ لي جسدًا…فقلتُ حينئذٍ: ها أنا ذا آتي…لأعمل ياألله بمشيئتك” (عب 10: 5-7). “اليوم الإله على الأرض ظهر، والإنسان إلى السماء صعد…” (من ترانيم “الطواف” في غروب العيد)، ذاك هو، بكلمة، ملخَّصُ مضمونِ العيد.
***
“لتسرَّ اليوم السماوات والأرض سرورًا نبويا، ولتعيِّد الملائكة والبشر تعييدًا روحيًّا، لأن الإله ظهر بالجسد للجالسين في الظِلال والظلمة، مولودًا من امرأة، فتقبلته مغارة ومِذوَد…” (القطعة الأولى من “طواف” العيد). الخليقة كلها في عيد. ونحن، على باب المغارة، ما هو موقعنا من العيد ومكاننا فيه ؟ “ماذا نقدّم لكَ أيها المسيح، لأنك ظهرتَ على الأرض إنسانًا لأجلنا؟ فكلٌّ من الخلائق التي أبدعتَها يقدّم لك شكرا: فالملائكة التسبيح، والسماواتُ الكوكب، والمجوسُ الهدايا، والرعاةُ التعجب، والأرض المغارة، والقفر المِذوَد. وأما نحن… فأمًّا بتولا!” (من صلوات غروب العيد). وهل هناك ما هو أثمَن وأسمى؟
***
مريم أُمٌّ بتول، هذه هي هديتنا لطفل المغارة، وهي على المدخل أشبه بجسر يوصلنا الى ابنها. مضطجعة هادئة، على وجهها أَمارات الحيرة والاطمئنان في آنٍ واحد. فهي، من جهة، تبدو وكأنها لا تزال في ذهول أمام الحدَث، ولكنها، من جهة أخرى، ثابتة في السكينة والهدوء، تستمدّهما من إيمانها المطلق وثقتها بالله: “لماذا تتععجّبين يا مريم، ولماذا تنذهلين في داخلك؟ فتجيب قائلة: لأني وَلدتُ في الزمَن ابنًا لا يحدّه الزمن، ولا أُدركُ كيفية الحبَل بالمولود. فكيف ألِدُ ابنًا، ولم أعرف رَجُلاً؟ مَن شاهَدَ يومًا ميلادًأ مِن غيرِ زَرْع ؟ لكنْ حيث يشاء الله يُغلَب نظام الطبيعة كما كُتِب” (النشيد الثاني من سَحَر العيد). – إنها، ولا شك، غائصة تتأمل ما وعته من كلام الرعاة في قلبها (لو 2: 17-19). ولكنّ نظرها وفكرها وقلبها يتجاوز الحدَث الآنيّ، ويمتدّ الى البعيد البعيد، الى اللانهاية، مما كان قبل الحدَث وما سيكون بعده. تفكّر وتتأمل: تعود بها الذكرى إلى جدّتها القديمة، الأم الأولى حواء، التي جلبَت الموت للإنسان. أما هي، مريم، حواء الجديدة، فهي تحمل للبشرية مَن هو “القيامة والحياة” (يو 11: 25). تستعيد في ذهنها آلاف السنين التي مرّت، ومئات الأجيال التي عاشت وماتت وهي تنتظر مجيء المخلّص، الذي يسحق رأس الحيّة. تمرّ أمامها عشرات الأسماء من الآباء والأجداد، الذين تكلموا عنها ورمزوا اليها، والأنبياءِ الذين تنبّأوا عنها بشتى الصور والتعابير. وهل تنسى، بنوع خاص، نبوءة أشعيا قبل ثماني مئة سنة: “إسمعوا يا بيت داود…ها إن السيد الرب يعطيكم هذه الآية: ها هي العذراء تحبَل، وتَلِدُ ابنًا، وتدعو اسمه عمانوئيل” (أش 7: 14).
***
هل كان النبيّ يومها في يقظة أم في منام؟ وهل هي الآن في يقظة أم في منام، أمام هذا الذي لا يكاد يُصًدًّق، لولا أنها تعيشه حياتيًّا، ولولا أن “الآية” تتحقق فيها هي نفسها. و”الآية” لم تعُدْ لبيت داود فحسب، بل أصبحت “آية للعالمين”، بدءًا بهؤلاء المجوس الأغراب، القادمين من أقصى المشارق.، وستمتدّ الى أقصى المغارب. – مريم في ذهول. ونحن كذلك: “يا من هي أُمٌّ وبتولٌ معا، إنه يعسر علينا جدًّا، وبرغم رغبتنا الشديدة، أن ننظم لكِ نشائد لائقة. فلذلك نؤْثر الصمت خشية، إذ هو أسهلُ ولا حَرَجَ فيه” (التسبحة التاسعة من “القانون” الثاني للعيد). ولكن هل أبلَغُ من هذا الصمت؟
ومريم لا تتأمل في الماضي فحسْب، بل هي تستكشف الآتي وتقرأه سلفا لتتأمل فيه. فبعد أيام فقط ستقدّم ابنها الى الهيكل، فيتقبله الكاهن الشيخ سمعان، ويتنبّأ لها بما يُفرح وبما يُحزن: وليدُها هذا سيكون “الخلاصَ الذي أعدّه الله للشعوب كلها، نورًا لهداية الأمم، ومجدًا لشعب إسرائيل” (لو 2: 30-32)، فهل لها من فخرٍ وفرحٍ أعظم من هذا ؟ ولكنه سيكون أيضا “لسقوط كثيرين في إسرائيل أو نهوضهم، ليكون آيةَ مقاوَمة” (34). الأمّ “آية”، والابن “آية”، “فهي وابنها آية للعالمين”. نبوءة سمعان الأولى مفرحة، أما الثانية فمأساوية للابن ولأمّه: سينقسمون بشأنه في إسرائيل، وفي العالمين أيضا بشأنه يختلفون، وسيبقى أبدا عرضة للرفض وهدفا للمقاوَمة. أما قمة المأساة ففي النبوءة الثالثة: “وأنتِ أيضًا سيجوز سيف في نفسكِ…” (35). هل ترى نفسها منذ الآن عند أقدام الصليب؟ “كانت واقفة عند صليب يسوع أمّه…” (يو 19: 25).
***
ما بين الماضي البعيد البعيد، والمستقبل القريب والأبعد، تجول أفكارُ مريم في انخطافٍ روحيّ، يعود بها الى ما بين الاثنين: اليوم، وهي في غمرة الحَدَث السعيد، تعيش مريمُ أعذبَ ذكريات حياتها لأشهُرٍ قليلةٍ خَلَت. يومها، تتذكّر الآن، وقف بها الملاك جبرائيل في مدينة الناصرة، ونقل اليها التحيّة من عند الرب: “السلام عليكِ أيتها المُنعَمُ عليها، الرب معكِ…ستحبَلين وتلدين ابنا، وتسمّينه يسوع، يكون عظيما، وابنَ العلِيِّ يُدعى…”. وبعد أخذٍ وردّ، وسؤالٍ وجواب، تقول: ” إني أمَةُ الربّ، فليكن لي كما تقول”… وبعد أيام، تستقبلها أليصابات: “مبارَكة أنتِ في النساء، ومبارَكٌ ثمرُ بطنكِ. مِن أين لي أن تأتي أمُّ ربّي إليَّ ؟…” (لو 1: 34-45). اليوم، في فرحةِ ما تحقَّق، تعود مريم فتتذكّر، وتعيش تلك الذكريات كما في حلم، فتُنشِد في نشوةِ الغِبطة والسعادة: “تُعظِّم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلّصي، لأنه نظر الى أمَتِه الوضيعة، فها إنه بعد اليوم ستَغْبِطني جميعُ الأجيال، لأن القدير، تقدَّس اسمه، صنع لي العظائم…” (46-49).
***
فمعها نحن أيضا، وفي بالغ الفرح والبهجة، نُنشِد: “تُعظّم نفسي الرب…”، ومعها، ومع الكنيسة، تصدح أجراسُنا وشفاهُنا وقلوبُنا في جميع جنبات المعمور: “المسيح وُلِدَ فمجِّدوه. المسيح أتى من السماوات فاستقبِلوه. المسيح على الأرض فارفعوه. أيتها الأرض كلها رتِّلي للرب. ويا شعوب سبِّحوه، لأنه قد تمجَّد” ( التسبحة الأولى من “القانون” الأول للعيد).

موقع بانيت