المطران جورج خضر
كان همّ الإنجيليين اللاهوت. فبالتأكيد لم يولد المسيح الناصريّ في السنة الصفر ولكن على ما نظنّ في السنة السادسة قبل التاريخ الميلاديّ. وبالتأكيد لم يولد في الخامس والعشرين من كانون الأول. فاللافت عندنا اننا نعيّد لمعنى وهو هنا الظهور الإلهي ونلبسه تاريخا.
فبعد إقامة الفصح بدت فكرة التعييد لظهورات أُخرى للمسيح، فجُمع تذكار ظهور السيد في معموديته في الأردن وتذكار مولده في بيت لحم عيدا واحدا، ثم عزلت الكنيسة تذكارا عن آخر لسبب رعائيّ اذ لاحظت أن ٢٥ كانون الاول هو عند طائفة وثنية تعييد لمولد الشمس وكانت الشبيبة الوثنية تجر الشباب المسيحي الى مباهج قد يكون فيها مجون، فرأت الكنيسة في روما والقسطنطينية أن تقيم عيدا لميلاد شمس أخرى، غير محسوسة أعني المسيح، رسمته شمس العدل واستعادت هكذا شبابها الى كنائسهم
.
ولم تبحث الكنيسة تالياً عن اليوم والشهر والسنة التي جاء فيها المسيح الى العالم، وهذا ليس فيه أهمية لأن العيد عندنا هو المعنى أو الفكر. اما اذا أقمنا ذكرى لشهيد أو قديس يكون ذلك في تاريخ موته إن عرفناه لأن ذلك يكون مولدا له في السماء. في العمق ليس عندنا عيد إلا الفصح أي هذه الثلاثية الممتدة من يوم الجمعة العظيمة الى صباح الأحد لكونها تتحدث عن الخلاص، ولهذا دُعي الفصح في آدابنا القديمة العيد الكبير فسمّينا الميلاد العيد الصغير، غير أن الهيكلية الطقوسية لهذا تحاول التشبّه بهيكلية ذاك، وكذلك يفعل فن الأيقونة فالوليد المقمّط بالبياض موضوع في مغارة سوداء وكذا سيكون في كفنه في القبر.
====
على تقارب العيدين يغلب على الميلاد طابع الانسحاق والفقر والتواضع ممّا يُدنيه في قراءتي الى يوم الجمعة العظيمة. يسوع الناصري يولد في مذود للبهائم أي في أحقر مكان في قرية بيت لحم لأن يوسف ومريم كانا فقيرين ولم يكن لهما محلّ في الفندق. الفقر يستصغر وقبلا استصغاره وشلحهما في ما لم يكن مكانا لبشر. بقي يسوع الناصريّ على هذا الخط. خادم نجّار في طفولته وبعد ذلك مساعد نجار أي انسان غير نافذ في بلدته. ينمو ويكبر في حضرة الله ويستمع الى الوعظ في مجمع الناصرة. بيته الخفاء. في الصمت لأنه كان محكوما بالتواري حسب عُرْف الديانة آنذاك قبل بلوغه الثلاثين حيث يُسمح لليهوديّ بالتعليم فعلّم.
الى هذا المذود الذي جعله القديس إيرونيمس في القرن الرابع مغارة وما كان بمغارة، توافد رعاة كانوا يحرسون أغنامهم في تلك الأرض التي سُمّيت في ما بعد بيت ساحور. قادهم وحي من السماء في فقرهم الى زعيم فقراء التاريخ ليشاهدوا طفلا ملفوفا بخرقات. كان الصمت هو الجامع بينه وبينهم. السماء وحدها كانت قد تكلمت هكذا: “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام في أناسِ المسرّةِ”. هؤلاء المرميّون في الأرض أخذوا من الطفل السلام وسوف ينعته بولس بالسلام، هذا الذي سوف يحققه بين أبيه وإخوته عندما يكشف سر الله وسر البشر بموته.
في هذا الوقت أو ما بعده بفترة يفد المجوس من المشرق، من العراق الحاليّ كما يظنّ بعض المفسّرين. أتباع المسيح في العراق يستنزفهم القتل الآن ويستبعدهم التهجير ليكونوا كمسيحهم على طرقات الدنيا. لماذا كُتبت المذبوحية على أهل المسيح في كل أصقاع العالم؟ هل مَن يولد من بطن امرأة مسيحيّة يحمل في طياته الدعوة الى المذبوحية. هو قرأ: “ليس العبد أفضل من سيده”. اليوم اذًا نذكر قتل هؤلاء ليكون عيدنا كاملا.
=====
اليوم لا يريد يسوع أن يولد في بيت لحم اذ لم يبقَ له فيها مكان. هو مطرود حتى اليوم. مصير المدينة أضحى كمصير فلسطين. بات المسيحيون فيها ٢٪. اجل قال بولس: “ليست لنا مدينة ثابتة”. الشتات مكتوب علينا. نحمل يسوع في قلوبنا ونموت حيث كُتب لنا أن نموت وبعد هذا نستوطن السماء. بعد هذا نترك في الدنيا كلمات الحياة.
قال المجوس للناس الذين التقوهم: “أين هو المولود ملك اليهود فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له”. ملك اليهود عبارة كتبها بيلاطس البنطي الوالي على الصليب. المسيح اذًا أُعلن ملكا بموته وفي موته، وكأن علماء العراق هؤلاء عرفوا أنه “الذبيح قبْل إنشاء العالم”. جاؤوا اذًا ليقولوا ان هذا الطفل حامل الخلاص وان الوثنية انتهت. ثم يأتي بولس بعدهم ليقول ان شريعة موسى قد انتهت هي ايضًا لأن المحبة التي سيبشّر بها هذا الوليد هي شريعة الله في الناس، وأتينا نحن لنسجد له لأن المحبة مطويّة فيه وسوف يموت ليُعلنها على العالمين: “وأتوا الى البيت ورأوا الصبي مع أمه فخرّوا وسجدوا له”. بطل علمهم بظهور المحبة التي باتت العلم الوحيد “ثم فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا ذهبا ولبانا ومرا”.
ونحن نقول ان الذهب يُهدى الى الملوك. بطلت اذاً ملكيّة الملوك عندما قبّل الزائرون العظام قدمي الوليد. فقيرا كان حتى وصوله الى الخشبة، وبعد قيامته قال كبار الدنيا الذين آمنوا به نحن لسنا بشيء وقال صغارها ان لنا مع هذا تماهيا وهو منا بعد أن أحسسنا أنّا له.
أما اللبان فهو البخور الذي يأتي من اليمن، من العرب وهو الرائحة الزكية التي تسطع من محبيه إذا تخلّوا عن كل انتماء أرضيّ والأكثرون من العرب سمعوه يقول لله عن الناس جميعا “وكنتُ عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفّيتني كنت الرقيب عليهم” (المائدة، ١١٧).
اما المرّ فموصوف عند متى على أنه الهدية الأخيرة لأن هذا ما سوف يتجرّعه على الخشبة إذ البشريّة معظمها ممرمر وهو الحلاوة كلها.
=====
يا ليتنا على بساطة الرعاة ليظهر يسوع لقلوبنا فيحلّ فيها سلامه. يا ليتنا على فهم المجوس له ليصبح فهمنا إلهيا. في الأيام المقبلة علينا بالنعمة اذا أقمنا العيد له يُسقطه هو علينا فنخرج من صحارى قلوبنا والدنيا وننعم بفقرنا اليه ونقيم العيد ببساطة وفهم، ومنه نذهب الى الفصح.