ميلادياتاللاهوت الليتورجي الميلادي وليتورجيا الإلهيات (1
الاخ نيقولاوسمقدمةتمتاز الصلوات في الكنيسة الأرثوذكسية بانها تتجاوز المفهوم العام للصلاة، وهو التضرع والسؤال. الصلاة في طبيعتها حوار مع الإله الذي نحب ونقيم معه علاقة شخصية في إطار شركة جماعية مع باقي المؤمنين. و ” المؤمن المصلي ” بحقّ هو ذلك الذي يرتقي في علاقته وحواره مع الله إلى ما بعد السؤال والاستعطاف، فهو يعلم أن الله عالم بما يحتاج في حياته، وعالم أكثر منه بما يوافقه لحياته حتى لو بدا ذلك غريباً أو معاكساً لرغبته الآنيّة. المؤمن المصلي مصطلح أريد إطلاقه على ذلك الشخص الذي يعلم يقيناً أنه ليس بحاجة لأن يستعمل الكلمات حتى يحاور الله، بل يحاوره من القلب إلى القلب، يحاوره في صمت، يدخل به إلى عالم النور الذي لا يغيب ، عالم القداسة والقديسين.يرتقي المؤمن في حياته الروحية شيئاً فشيئاً، ويبلغ في الطريق نحو الله مرحلةً يخجل فيها أن يسأل لنفسه شيئاً خاصاً، بل تتمحور صلاته وسؤاله حول أخوته الذين حوله، يسأل من أجلهم حتى يفيض الله من نوره عليهم ويرحمهم فيرحمه معهم، وهنا مرحلة توحيد المصير بين المؤمن وبين أخوته. فإذا كنت بلغتَ هذه المرحلة فأنت قد بدأت تخطوأولى خطواتك على الطريق الحقيقي الذي يقودك إلى النور الذي لا يغرب. وفي مرحلة ما سوف تطلب ليس فقط لأجل أخوتك وأصدقائك، وإنما لأجل العالم بأسره ، الذي يحبك والذي لا يحبك، الذي يبغضك والذي يؤذيك، الذي يجحد بإيمانه والذي يجدف على إلهك .. سوف تقف مصلياً لأجل الكل ، وسوف تنسى كل إساءة وكل ضيق وكل اضطهاد. عندها فقط تكون قد وقفت في حضرة الإله، لأنه حينما يشرق عليك بنوره فعلاً لن ترى ظلمة أبداً.في الليتورجيا الأرثوذكسية بعض من هذا الرحيل في عالم الملكوت، إن لم نقل هي عالم الملكوت بعينه – بحسب القدر المتاح لإدراكنا المحدود -، نظماً ولحناً وأداءً. وقد تجاوزت في معناها مسألة التضرع والسؤال وقطعته بمراحل إلى حد إعلان العقائد وتأكيد الإيمان. فانت إذا ما رتّلت قنداقاً أو طروبارية ، أو قرأت إفشيناً أو صلاةً ، تخال أنك تستعرض كل اللاهوت المسيحي فيه، وتتجلى لك روعة الإعلان الإلهي منظوماً في صلاة قصيرة تسافر بروحك إلى حضرة النور الإلهي وتجعلك مقيماً أبداً في يسوع المسيح وهو يقيم فيكفلننهض الان يا اخوة من أرضيتنا ونحلق على أجنحة الملائكة مع أجمل وأهمّ ما نصليه في خدمنا الإلهية المختلفة في فترة الميلاد والصوم الميلادي المجيد ..
لكي نهيء قلوبنا له بالصلاة والتسبيح مذوداً دافئاً فيولد فيه
على مزمور الغروب يوم عيد تجسد سيدنا وربنا يسوع المسيح ، نقول :
هلموا لنبتهج بالرب مذيعين السر الحاضر، فإنه قد زال سياج الحائط المتوسط والحربة اللهيبة تنقلب راجعة، والشيروبيم يبيح عود الحياة، أما انا فأعود إلى التمتع بنعيم الفردوس الذي نُفيتُ منه قبلاً بسبب المعصية، لأن صورة الآب وشخص أزليته المستحيل أن يكون متغيراً قد اتخذ صورة عبد آتياً من أم لم تعرف زواجاً خلواً من استحالة، إذ لبث كما كان إلهاً حقيقياً واتخذ ما لم يكن، إذ صار إنساناً لمحبته للبشر. فلنهتف: يا من ولد من البتول اللهم ارحمنا.
في الكنيسة بهجة، فرح غامر بما حدث. الله صار إنساناً ” الكلمة صار جسدا وحل بيننا ” ( يوحنا ). الجماعة المؤمنة لا تحتفظ لنفسها بالفرح بل ترى نفسها المسؤولة عن إعلانه للأمم كافةً، مهمتها أن تعلن السر الغامض، سر التجسد الإلهي كما فعل الملاك مع الرعاة ” قال لهم الملاك : لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب ” ( لوقا ). ولهذا نحن لا نعايد بعضنا بعضاً بالتحية الفاقدة المعنى ( كل عام وأنت بخير ) فقط، بل نسبقها بالقول والإعلان ( المسيح ولد ) ونجيب عليها ( حقاً ولد ). في كنيستنا لا يوجد عبارة هكذا، للصدفة. نحن لا نقول الكلام هراءً بل نذيع ونحدث بمجد الرب في العالم بأسره ولا نتردد.
المسيح ولد .. حقاً ولد ..
فيا له من سر غريب. لقد انفتحت الطرق إلى الإله مجدداً بولادة هذا الطفل في مغارة بيت لحم. ماذا كان قبل تلك الولادة ؟

الحربة اللهيبة تنقلب راجعة :

يخبرنا سفر البدايات ، التكوين ، ان الإنسان لما رفض الطاعة وخالف إرادة الله طامعاً ان يتأله من خلال المعصية وطاعة شهواته ، طرده الله خارج جنة عدن وأغلق طريق العودة أمامه ” فطرد الإنسان ، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة ” ( تكوين3: 24 ). ذلك لأن طريق العودة إلى الله لا تمر من خلال الكبرياء والأنانية بل من خلال التواضع والإنسحاق ونكران الذات.

ويقتبس المرنّم هذه الآية ليوضح أن الطفل الإلهي المولود في مغارة بيت لحم هو الذي بتواضعه وقبوله ان يتنازل إلينا ليرفعنا ثانية نحو عدن المغلقة، قد أزال تلك الحربة الملتهبة ” لهيب السيف المتقلب ” الذي كان يحول بين الإنسان الساقط وشجرة الحياة. بمولد المسيح وقبولنا له مخلصاً ورباً وإلهاً قد انهار السياج الذي كان يمنعنا من الحياة الأبدية التي وهبنا إياها الله والتي خلقنا لنتمتع بها، ولكن في ظل رحمته ومحبته، وليس في ظل شهوات الجسد المائتة.

لقد كان صليب المسيح هو شجرة الحياة التي في وسط الجنة، والتي بها نحيا ونشفى من انانيتنا وغرورنا اللذين أسقطانا في المعصية قديماً . بالصليب تنكسر كل حواجز الأنانية والكبرياء لأن موت الصليب هو موت عن الآخر ومن اجل الاخر ، وهذا التخلي عن الذات لا يفوقه شيء آخر ” أي حب أعظم من هذا، أن يبذل أحد نفسه عن أحبائه ” ( يوحنا )

هكذا انتهى دور الشيروبيم في حراسة طريق شجرة الحياة ” وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ،ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة ” ، وهكذا نرى كيف يستخلص المرنّم جوهر الآيات المقدسة ليصيغها في ترنيمة يعترف من خلالها بجوهر اللاهوت وروحه.

أما انا فأعود إلى التمتع بنعيم الفردوس ..
الذي نفيت نفسي منه بمعصيتي. الله خلقني وأراد لي أن أحيا معه، يكلمني وأكلمه ، فهو خلقني لحياة الفردوس ” وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها ” ( تكوين )، وأعطاني سلطاناً على كل الخلائق وجعلها تخضع لي ” وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء ، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها ، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها ” ( تكوين ). ووضع كل ثمار الجنة امامي ، ولكنني اخترت واحدة من بين كل تلك الخيرات، وهي التي نهاني عنها وطلب إلي عدم الأكل منها. معتمداً المبدأ القائل ” كل ممنوع مرغوب “.

هذه الصلاة هنا هي بلسان آدم، وآدم هو كل إنسان سقط بالمعصية من حضرة الله، وادرك عريه فاختبأ من وجه إلهه خجلاً من نفسه. آدم المسكين تهلل فرحاً لما سمع بميلاد المسيح وأدرك ان تجسد الكلمة هو ” مفتاح العودة ” إلى الفردوس المفقود. الفردوس ضاع بعدم الطاعة ، ولكنه وُجد الآن بطاعة آدم الثاني ، أعني المسيح يسوع ، الطاعة المطلقة بلا حدود ” وجد في الهيئة كإنسان ، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ” ( فيلبي ). الطاعة في المسيح هي في قوله حقاً ” لتكن مشيئتك لا مشيئتي ” .

لأن صورة الآب وشخص أزليته المستحيل أن يكون متغيراً قد اتخذ صورة عبد
لا يتوانى المرنّم عن التأكيد ان المولود ليس طفلاً عادياً، وليس طفلاً بشرياً حل عليه روح الرب مؤقتاً، أو استخدمه لفترة ما. بل إن الطفل كان منذ ولادته صورة الآب ، واحد معه في الجوهر ، مولود منه ” الذي ، وهو بهاء مجده ، ورسم جوهره ” ( العبرانيين ). ويؤكد أن هذا التجسد – التنازل – إلى بشريتنا هو فعل اختياري أراده الله بفائق مشيئته ورحمته ومحبته، دون ان يتغير او يتبدل جوهره الإلهي ” هو صورة الله غير المنظور ، بكر كل خليقة ” ( كولوسي )، وكلمة ” صورة ” هنا تعني الشبه الكامل باللغة الأصلية.

يعترف المرنّم، آدم الخاطيء المخلَّص ، بأن الطفل المولود هو كلمة الآب، هو الابن المولود من جوهر الآب بغير انفصال أو انقسام عن الثالوث الأقدس. ويؤكد أنه وإن شاء ان يظهر بصورة إنسان ضعيف لكنه كان ولم يزل وسيبقى ” صورة الآب وشخص أزليته المستحيل ” …
من أم لم تعرف زواجاً
جوهر الإيمان الأرثوذكسي أن الإناء الذي اختاره الله لتجسده لم يمسه شيء، بل هو محفوظ كما هو . والعذراء الطاهرة بقيت بتولاً أثناء الولادة وبعدها ، كما هي فعلاً قبلها. والولادة تمت بلا زرع بشري لنها ولادة عجائبية من الروح القدس بإرادة الآب وبفعل الابن ، وهي عمل الثالوث الأقدس لخلاص البشرية وعودتها لفردوسها .

خلواً من استحالة،إذ لبث كما كان إلهاً حقيقياً واتخذ ما لم يكن
في الترنيمة استحضار للإيمان الأرثوذكسي القويم، المعبَّر عنه في المجمع المسكوني الرابع في خلقيدونيا. فالتجسد تم دون أن يطرأ أي استحالة أو تبدل على وحدة الأقنوم الإلهي المتجسد. أي أن الكلمة ، الأقنوم الثاني من الثالوث، قد اتخذ على نفسه طبيعتنا البشرية الساقطة كاملةً وضمها إلى لاهوته، لكي تسري فيها حياته وألوهته، ومن خلالها تسري تلك الحياة والألوهة فينا نحن المؤمنين الذين نتناول جسده ودمه في شركة واحدة ، كأس الشركة.

الطفل المولود بقي إلهاً كما كان، لم يتغير من لاهوته شيء، ولم يزل في كل حين وهو حاضر على الأرض بيننا ونراه ونمجد حضوره ، بقي أيضاً في كل حين واحداً مع الآب والابن ومعهما في كل مكان ” ساكناً في النور الذي لا يُدنى منه “.
هذا هو السر الغريب ، الله بيننا ولكنه لم ينفصل عن الثالوث ولم تنقطع أواصر علاقة الثالوث بعضها معاً .. صار إنساناً تاماً وهو لم يزل في لاهوته كاملاً.. اتخذ جسداً بشرياً لينحدر به إلى مستوى ضعفنا، فينهضنا معه إلى ميامن مجده.

صار إنساناً لمحبته للبشر
التجسد فعل المحبة الإلهية .. لأنه ” هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ، لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية ” ( يوحنا )، ولأنه ” لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم ، بل ليخلص به العالم ” ( يوحنا ).

فلا يسعنا إلا ان نصرخ له ” يا من ولد من البتول اللهم ارحمنا “..
هكذا نرى كيف استحضر المرنّم في ترنيمة واحدة معظم الأحداث الكتابية المختصة بالسقوط والطرد من الفردوس وفقدان حياة النعمة المعطاة لنا بسبب العصيان، وكيفية عودتها وانهيار كل الحواجز التي تحول بين الإنسان والفردوس بتجسد الابن من مريم العذراء ، بدون تدخل بشري بل بفعل إلهي ثالوثي بحت، وبدون أن يطرأ على لاهوته الأزلي أي استحالة أو تغيير..

فعظيم هو السر العجيب الذي لا يسعنا إلا أن نصرخ امامه:
عظمي يا نفسي الإله المولود من البتول من اجل خلاصنا