ترجمه الأب دمسكينوس الكعدةالفائقة القداسة، دائمة البتولية، والدة الإله…في التقليد الأرثوذكسي، المغبوطة مريم تملك عدة أسماء. أيقوناتها تُعْطَى لها ألقاب وأسماء مثل: “الأم الممجدة من الكل”، “أم التعزية”، “أم الحنان”، “أم اللطف المحب”، “النبع المعطي الحياة”، “كفيلة الخطأة”، السريعة الاستجابة”، “فرح كل المحزونين”، وأيضاً، الأكثر لفتاً للنظر “أم الإله، الفرح غير المتوقع”. هذه الألقاب تدل على الشعور بالدفء والفرح، الشعور بالثقة والحماية، هذا الشعور الذي تبثه التقوى لوالدة الإله في الروحانية الأرثوذكسية. إن الإيمان بالمسيح الذي يستثني الحب والتوقير لوالدته يبدو للمسيحي الأرثوذكسي بارداً وغير كامل. إنه إيمان آخر، مسيحية أخرى غير تلك التي للكنيسة الجامعة الأرثوذكسية. إذا استثنينا مريم من الحياة الروحية، عندها نكون في خطر استثناء عنصر مؤثّر وبديهي، إدراك أو شعور حسي هام بشكل حيوي لجميعنا. ولكن بالرغم من أنها ممهورة بشعور قوي وفعال،فإن تقوانا لوالدة الإله ليست بحال من الأحوال عاطفية فحسب أو وجدانية، بل لها أساس ثابت في اللاهوت.مكانة مريم في العقيدة الأرثوذكسية والحياة يعبَّر عنها في العبارة التي تستعمل أكثر من أي عبارة أخرى (ما عدا المجد والآن…) في صلواتنا: “بعد ذكرنا الكلية القداسة الفائقة البركات المجيدة… لنودع بعضنا بعضاً…” هذا النص يزوِّدنا بأيقونة فعلية عن شركة القديسين. بشكل ثابت المسيح إلهنا هو في المركز، المخلّص والوسيط الوحيد، الذي عليه يستند كل شيء آخر. بجانب المسيح تقف والدته، الأكثر رفعة بين خلائق الله، ” الأكرم من الشيروبيم والأرفع مجداً بغير قياس من السيرافيم”، كما توصف في العبادة الأرثوذكسية. ولكن، وبمقدار تعظيمها، فهي دائماً مكرَّمة مع المسيح وتاليةً له، أبداً ليست لوحدها باستقلال عن ابنها. يسوع هو مخلِّصها وفاديها، مخلص وفادي كل الجنس البشري.حتى ولو كنا نحن الأرثوذكس في بعض الأحيان نقول لوالدة الإله عبارات مثل: “أيتها الفائق قدسها والدة الإله خلصينا” أو “أنت خلاص الجنس البشري”، لكننا نبقى بثبات مقتنعين أنه لا يوجد وساطة أو خلاص بمعزل عن المسيح. مهما كان فعل مريم فهو بالكلية من خلاله وفيه. بعد والدة الإله يأتي القديسون الراقدون على الإيمان، وأخيراً، الأعضاء الأحياء للكنيسة على الأرض “بعضنا بعضاً” كما تعبّر عنها كلمات الصلاة. بهذه الطريقة، بعد ذكرنا مريم والقديسين والأحياء وإيداع أنفسنا للمسيح، نعبّر عن إحساسنا بالارتباط وأننا معاً من خلال الصلاة المشتركة نكوِّن عائلة واحدة.العبارة “بعد ذكرنا…” تحتوي فعلياً على الأسماء أو الألقاب الثلاثة لوالدة الإله التي هي الأهم في التقوى الأرثوذكسية: “الكلية القداسة”، “دائمة البتولية”، و “والدة الإله”. هذه الألقاب الثلاثة جميعها نجدها في التقليد الآبائي المبكّر”الفائقة القداسة” غالباً أعطيت لمريم من قبل أوريجنس في أواسط القرن الثالث (في مواعظه حول إنجيل لوقا الإصحاحات 7 و19)، واستعملت بلا ريب من قبل إفستاثيوس القيصري في بداية القرن الرابع (التاريخ الكنسي 3،16). الأرثوذكسية فهمت أن هذا اللقب يعني أنها برئية من أي خطيئة فعلية، بالرغم من أنها وُلِدَت عرضة لتأثيرات الخطيئة الجدّية، مشتركة في ذلك مع كل الرجال والنساء القديسين في العهد القديم. بالتالي فالكنيسة الأرثوذكسية ترى فيها الكمال الأسمى للقداسة في شخص بشري، النموذج والمثال لما يكوِّن، بنعمة الله، الإنسان حقيقةً، ولكنها لا تقبل التعليم الكاثوليكي حول الحبل بلا دنس.اللقب الثاني “دائمة البتولية”، يعود بالتاريخ على الأقل إلى القرن الرابع.غالباً قد استعمل من قبل القديس بطرس الإسكندري (+311). وبالتأكيد فقد استخدم من قبل القديس أثناسيوس (في مواعظه ضد الآريوسيين وفي شرحه للمزامير). في القرن الذي يسبقه، يؤكد أوريجنس بوضوح إيمانه ببتولية مريم الدائمة، بالرغم من أنه فعلياً لا يستعمل المصطلح “دائمة البتولية” بالتحديد في كتاباته الموجودة. هو يعتبر أن “إخوة” الرب هم أولاد يوسف من زواج سابق، وهنا يختلف بالرأي مع القديس جيروم، الذي يعتبر أن إخوة يسوع هم أقرباؤه. الكنيسة الأرثوذكسية عادة تتبع رأي أوريجنس في هذه النقطة.وبالنسبة للقب الثالث “والدة الإله” فقد استعمل أيضاً من قبل أوريجنس، وبعد ذلك من قبل سلسلة من الكتاب في القرن الرابع، بما فيهم ألكسندروس الاسكندري، إفسابيوس القيصري، القديس أثناسيوس، القديس كيرلس الأورشليمي، القديس غريغوريوس النزينزي، والقديس غريغوريوس النيصصي[FONT=’Times New Roman’,serif][1]، ويصادف أيضاً من مقطع على بردية من القرن الثالث أو الرابع ([/font]Sub tuum paresidium) والتي تحتوي على واحدة من أقدم الصلوات المسيحية للمغبوطة مريم، والمعروفة لكل من المسيحيين الشرقيين والغربيين: “يا والدة الإله إذ قد لجأنا تحت كنف تحننك فلا تعرضي عن توسلاتنا في الضيقات بل نجّينا من كل الشدائد” (أنظر نهاية صلاة النوم). قبل هذا بكثير، اللقب “والدة الإله”، يدل عليه ضمناً وبوضوح القديس إغناطيوس الأنطاكي في المقطع الشهير الذي كتبه في السنوات الأولى من القرن الثاني: “ربنا يسوع المسيح قد حُبل به من مريم عبر التدبير” [FONT=’Times New Roman’,serif][2][/font]هذا المصطلح أصبح شائعاً على عهد الامبراطور يوليانوس الجاحد (363) الذي كان يهتف بازدراء: “أنتم المسيحيين لا تكفّون عن تسمية مريم والدة الإله”[FONT=’Times New Roman’,serif][3][/font]اللقبين الثاني والثالث يظهران أيضاً في التحديدات العقائدية للمجامع المسكونية السبعة. “والدة الإله” استُعمِل في المجمع المسكوني الثالث في أفسس (431)، واللقب “دائمة البتولية” في المجمع المسكوني الخامس في القسطنطينية (553). اللقب “الكلية القداسة” يوجد في أعمال الجلسة الرابعة من المجمع المسكوني السابع في نيقية (787) بالرغم من أنه ليس في التحديد العقائدي للمجمع. لكن المجمع يصف مريم بأنها “كلية الطهارة، البرئية من كل عيب” “Achrantos” المصطلح الذي يطلق عليها في العبارة المذكورة سابقاً “بعد ذكرنا…”الأم والطفلالأهم بين الألقاب الثلاثة هو بدون شك “والدة الإله”. في الواقع، يمكن القول أن الكنيسة الأرثوذكسية ليس لها تحديد عقائدي رسمي آخر فيما يتعلق بالعذراء مريم بمعزل عن اللقب “والدة الإله”. عندما استعمل المجمع المسكوني الخامس لقب “دائمة البتولية”، والمجمع المسكوني السابع اللقب “الكلية القداسة”،لم يقضِ أي من المجمعين أن تؤول هذه الكلمات إلى مفهوم عقائدي خاص. ولكن عندما صادق آباء مجمع أفسس على الاسم “والدة الإله” كان هذا فقط بعد مناظرة عقائدية محددة،وقد فُهِم هذا اللقب من قِبَل المجمع في اقتنائه دلالة عقائدية دقيقة. قبل وبعد أفسس، على حد سواء، لوحظ أنه مركزي لاعتراف صحيح بالإيمان المسيحي: “إذا كان أحد لا يعترف أن العذراء مريم هي والدة الإله”، يقول القديس غريغوريوس النزينزي (329-389) “فهو مقصى عن الله”[FONT=’Times New Roman’,serif][4]. والقديس يوحنا الدمشقي يؤكِّد: “الاسم والدة الإله يعبِّر عن كل سر التدبير الإلهي للخلاص”[FONT=’Times New Roman’,serif][5]. بينما نحن الأرثوذكس نؤمن بثبات ببتولية مريم، فالأمر الهام بما لا يعلى عليه بالنسبة لنا هو دورها كمانحة للولادة، أمومتها الإلهية. هي ليست ببساطة وفي المقام الأول “البكر النقية”، ولكن فوق كل شيء هي أم – أم المسيح إلهنا، وليس هذا فقط، ولكن أيضاً الأم الكونية، أم كل الجنس البشري، معطية الحياة لكل الخليقة[/font][/font]كيف يمكن ترجمة المصطلح Theotokos؟ التعبير “والدة الإله” الذي غالباً سوف أستعمله، هو الأكثر ملائمة والأكثر أناقة، بصرامة أقول أنه ليس ترجمة بل إعادة صياغة”أم الله” (باليونانية Mêter tou Theou) هو في الواقع اسم جلي وواضح، أعطي لمريم من قبل كتاب مسيحيين على الأقل منذ أوائل القرن الرابع، وجِد مثلاً في حديث الإمبراطور قسطنطين الكبير (337) “إلى مجمع القديسين”: “حمل بدون زرع… والبكر العذراء والدة الإله”[FONT=’Times New Roman’,serif][6]. إنه من الأدق ترجمة Theotokos إلى “من ولدت الإله” (God bearer, Bearer of God, Birth giver of God)[/font]دعونا نعتبر اللقب “والدة الإله” تحت الشكلين، وإذا نظرنا إلى مقطعيه الكلاميين الأولين Theo والتاليين Tokos. ماذا يعني أولاً كون مريم ملقبة بِـ “معطية الولادة” أو “أم الله” وأنها من ثم أم حقيقية؟ بكلام آخر، ما هي المعاني المتضمنة بهذا الاسم أولاً لفهمنا لشخص المسيح، وثانياً لفهمنا لشخص مريم؟ ما هو، أولاً، المعنى المركَّز على المسيح في هذا الاسم، وماذا يخبرنا عن تجسّد الله؟ وثانياً، ما هو المعنى الإنساني والكنسي؟ وماذا يخبرنا عن مريم كنموذج أصلي للنفس والكنيسة؟المعنى الخريستولوجي[FONT=’Times New Roman’,serif][7][/font] للاسم Theotokosهو ملخّص من قبل القديس كيرلس الاسكندري (444) في الحرم الأول من حرماناته الإثني عشر. “إذا كان أحد لا يعترف أن عمانوئيل هو حقاً الإله، وأنه لهذا السبب، العذراء القديسة هي والدة الإله، كونها بالجسد ولدت الله الكلمة الصائر جسداً، فليكن محروماً”. هنا الحافز الأساسي عند القديس كيرلس لتسمية مريم والدة الإله واضح فوراً. لقد رأى هذا كعامل أمان وكضمانة لوحدة المسيح الأقنومية. القضية بينه وبين نسطوريوس خلال النزاع في السنوات (429-431) حول اللقب “والدة الإله” لم تكن بشكل أساسي عن تكريم شخص مريم، حتى نسطوريوس يعلِّق “لا تجعل العذراء إلهة”. النقطة الأساسية للنزاع كانت بالأكثر كمال إنسانية المسيح ووحدته الأقنومية. لم يكن نزاعاً مريماً بل خريستولوجياً. نسطوريوس كان مهتماً بالتأكيد على سلامة وكمال طبيعة المسيح الإنسانية، وكان خائفاً أنه إذا دعيت مريم والدة الإله، فهذا سيجعل المسيح أقل من إنسان حقيقي. رأى في هذا اللقب خطراً خفياً للأبولينارية. إذ تبنى النظرة الأنطاكية التقليدية، فقد رسم تمييزاً حاداً بين ما يمكن أن ينسب إلى ألوهة المسيح وبين ما يمكن أن ينسب إلى إنسانيته. “لقد حوى كل الأشياء البشرية في إنسانيته وكل الأشياء الإلهية في لاهوته، لأن الولادة من إمرأة هي أمر بشري، ولكن الولادة من الآب بدون بداية… الواحدة أزلية والثانية زمنية”. ولهذا احتج قائلاً: “لا أستطيع أن أعبد إلهاً ولد ومات ودفن”. ولهذا فريم بالنسبة لنسطوريوس هي أم الطبيعة البشرية التي اتحدت بالله الكلمة، ولكنها لا يمكن، بمعنى دقيق، أن تدعى والدة الإله الكلمة نفسه. بالرغم من أنه (نسطوريوس) سمح باستعمال الاسم Theotokos بشروط معينة حذرة، فقد كان يعتبر أنه من الضلالة أن ندعو مريم “من ولدت الإله Theotokos ” أو “من ولدت الإنسانAnthropotoks ” وكان يفضل اللقب Christotokos “والدة المسيح” لأنه، كما كان يؤكّد، أن الكتب تقول أن “المسيح قد ولد” (متى 16:1)إجابة القديس كيرلس على هذا الموضوع تظهر بوضوح في رسالته الثانية إلى نسطوريوس: “عندما تجرّأ الآباء على تسمية العذراء القديسة “والدة الإله” فإنهم لم يعنوا بهذا أن طبيعة الكلمة أو ألوهيته تنشأ من العذراء القديسة. ولكن بأن جسده المقدّس، قد ولد منها، ولأن الكلمة قد اتَّحد أقنومياً مع ذاك الجسد، يقال بأنه قد ولد منها بحسب الجسد”[FONT=’Times New Roman’,serif][8][/font]المفتاح لوجهة نظر كيرلس هو أنه يعتبر الأمومة كعلاقة بين أشخاص، وليس بين طبائع. بكلمات لاهوتي أرثوذكسي روسي، الأب جورج فلوروفسكي (1893-1979): “الفكر المسيحي يتحرك دوماً في فضاء الشخصيات، وليس في حقل الأفكار العامة. إنه يدرك سر التجسد كسر الأم والطفل”. نفس النقطة يشدد عليها البابا يوحنا بولس الثاني في منشوره البابوي Redemptoris Mater (25 آذار 1987): “الأمومة دوماً تؤسِّس علاقة فريدة ولا تتكرر بين شخصين: بين الأم والطفل وبين الطفل والأم”. نفس الشخصانية تسيطر في فكر القديس كيرلس خلال النزاع النسطوري. ما تلده الأم ليس هو الطبيعة بل الشخص، وفي حالة المسيح، كما كان القديس كيرلس مقتنعاً، ليس هناك موضوع شخصي آخر غير الله الكلمة. خطأ نسطوريوس كان أنه يفكّر في مصطلح طبيعتين أكثر من تفكيره في شخص واحد، ولهذا فشل في إدراك أن الموضوع الأهم فيما يتعلق بالمسيح المتجسد هو دوماً الكلمة الإلهي. صحيح أن الإله في ذاته لا يخضع لولادة بشرية، ولكن مريم ليست أم الطبيعة الإلهية، هي أم شخص الله الكلمة. الطبيعة الإلهية لا يمكن أن تولد من إمرأة. ولكن كامل سر معجزة التجسّد يكمن في هذا – أن الأقنوم الثاني من الثالوث، في تنازله وإفراغه لذاته، يمتد ليصير شخصاً خارج حدود طبيعته الإلهية، آخذاً الإنسانية بالكلية وبالحقيقة في وجوده الشخصي ومتقبّلاً كشخصٍ ولادة إنسانية حقيقية من إمرأةإذا كنا لا نقول أن مريم ولدت الإله المتجسّد بالجسد، عندها من خلال وجهة نظر القديس كيرلس فالمقابل الوحيد أو الخيار الآخر هو أن نقول أنها ولدت إنساناً عادياًفقط من خلال التأكيد على “والدة الإله” يمكننا تفادي تقسيم المسيح المتجسد إلى موضوعين شخصيين، موجودين معاً بشكل مهَلهَل في جسد واحد. اللقب “والدة الإله” يحمي الوحدة الجوهرية في شخص المسيح، وهؤلاء اللذين يجحدونها هم مجبرون – إن شاؤوا ذلك أم لا- على قبول إزدواجية أو ثنائية الأبناء: “هؤلاء الذين بغباوة يدافعون أن العذراء القديسة ليست والدة الإله، بالضرورة يسقطون في خطأ التأكيد على ابنين لله. لأنه إذا كانت العذراء القديسة لم تلد، بالجسد، الإله المتجسد، فهم بالضرورة يجب أن يعترفوا – حتى ولو لم يودّوا هذا – أنها قد ولدت إنساناً عادياً على قدم المساواة لنا… ولكنهم إذا قالوا أن الطفل المولود من العذراء القديسة هو الله بالحقيقة، أي الكلمة من الله الآب، متحداً بالطبيعة مع الجسد، فلماذا هم خائفون أن يعترفوا أن العذراء القديسة هي والدة الإله؟” [FONT=’Times New Roman’,serif][9][/font]”والدة الإله” ليس لقباً اختيارياً للتقوى، ولكنه المحكّ للإيمان الحقيقي بالتجسد. أن تنكر والدة الإله يعني أن تضع تحت التساؤل وحدة شخص المسيح كإله متجسد. في تعليقه على المقطع (يوحنا 14:1) “الكلمة صار جسداً” يلاحظ القديس أثناسيوس أنه “صار إنساناً” وليس “دخل في إنسان” [FONT=’Times New Roman’,serif][10]. هنا تماماً يوجد الفرق عند القديس أثناسيوس بين المسيح وبين نبي أو قديس. في حالة النبي أو القديس الله يحرِّك شخصاً بشرياً. ولكن المسيح ليس شخصاً بشرياً يحرِّكه الله. إنه الكلمة صار جسداً، الشخص الثاني من الثالوث، شخص إلهي بذاته صار إنساناً بالكامل. التجسد يدل على أن الله نفسه أصبح بالحقيقة واحداً منا “مساوٍ بالجوهر لنا من خلال الإنسانية” كما يصرّح التحديد الخلقيدوني. اللقب “والدة الإله” يدعم هذه الحقيقة المعطية الحياة للإله المتجسد. كما يقول المجمع المسكوني السابع في تحديده العقائدي حول الأيقونات المقدسة “نحن نعترف أن سيدتنا القديسة مريم هي بدقة وبالحقيقة والدة الإله لأنها ولدت بالجسد أحد الثالوث القدوس، المسيح إلهنا”. إذا جعلنا مريم أقل من “والدة الإله”، عندها نجعل المسيح ذاته أقل من الإله المتجسد. الاسم “والدة الإله” متلازم مع الاسم “الإله الإنسان [/font]Theanthropos”. الإثنان ينتصبان ويسقطان معاً. عقيدة الاتحاد الأقنومي تتضمن وتقتضي الإيمان بأمومة مريم الإلهية. المصطلح Theotokos هو بالتالي، يورد الأب جورج فلوروفسكي “تحديد عقائدي في كلمة واحدة” لهذا، الاسم المميّز “والدة الإله”، يجعل الربط الأساسي بين مريم والمسيح واضحاً. المريولوجي[FONT=’Times New Roman’,serif][11] ([/font]Mariology) هو جزء من الخريستولوجي (Christology). شخص المغبوطة مريم وتكريمها يمكن فهمه بالشكل الصحيح فقط من خلال المفهوم الخريستولوجي. كما يشدد البابا بولس السادس في منشوره الرسولي Marialis Cultus (2 شباط 1974): “نقطة المصدر الأساسية في كل تكريمنا للقديسة مريم هو المسيح نفسه”. البابا الحالي يقول الشيء نفسه في منشوره Redemptoris Mater”فقط من خلال سر المسيح يصير سرّها واضحاً بالكلية”. ليس لنا أن نفصل الأم والطفل عن بعضهما. إذ يفهم بشكل صحيح، فإن التكريم والشرف المعطى لوالدة الإله لا يقلَّل بأي حال من الأحوال الشرف المنسوب أو المقدَّم إلى المسيح، لأنه من أجل الابن نكرِّم الأم. بكلمات الكالفيني ريشارد باكستر الذي يكتب في العام 1781: “ليس تقليلاً لشرف المسيح أنه يجعل من مخلوقات مرافقة لي مصدراً لفرحي”. في الواقع، هو لم يكن يتحدَّث عن مريم بل عن زوجته مرغريت التي توفت حديثاً، ولكن بالتأكيد كلماته يمكن تطبيقها بالتساوي على والدة الإلهإن الرباط الذي لا ينفك بين مريم والدة الإله وسر التجسد يعبَّر عنه باستمرار في أعظم الأشعار المسيحية الشرقية المنظوم على شرفها وهو المديح الذي لا يجلس فيه، المكتوب في منتصف القرن السادس غالباً من قبل القديس رومانوس المرنم. يحتوي على سلسلة من الهتافات لوالدة الإله تبدأ كل منها بالكلمة “إفرحي”، وغالبية هذه الهتافات تشير مباشرة إلى دور مريم في ولادة المسيح. تسمَّى “النجم المنبئ بظهور الشمس”، “السلم السماوي التي بها انحدر الإله”، ” الجسر الذي يقود البشر من الأرض إلى السماء”، “الفجر المضيء للنهار السري”، “الهيكل الحي”، “مظلة الإله الكلمة”، ” الأعظم من قدس الأقداس”، “القوس المذهَّب بالروح”. كل هذه العبارات وغيرها لها مصدر خريستولوجي ظاهر. بالنسبة لكاتب المديح، مريم هي “الأرض”، “الأرض الأم”، بينما المسيح هو “الزرع”. هي “الحقل”، “المائدة”، النبع”، بينما هو “الحصاد”، “الاحتفال”، “النهر”. الأم والابن هما معاً جزء من دراما واحدة، سر غير منقسم. المديح، باستعماله الغني للرموز الشعرية، يوضح مركزية الرمز في التفكير اللاهوتي. ذلك لأن الصور الشعرية في المديح ليست فقط ذات عمل أسلوبي أدبياتي، ولكن فوق كل شيء عقائدي. الشعر هو بشكل رئيسي لاهوتي. مما يستحق الملاحظة هنا أن الآباء، حينما يكتبون شعراً أو نثراً، فهم يؤيّدون أفكارهم من خلال ترابط الرموز أكثر من استعمالهم لسلسلة من التفكير الاستنتاجي. وإذا كانت الرمزية مهمة لكل اللاهوت، فهي بشكل خاص هامة من أجل اللاهوت حول مريمالحزن المفرِحإذا كان هذا هو المعنى الحقيقي للقب “والدة الإله” من أجل فهمنا للمخلص، فماذا يخبرنا إذاً عن موقع وخبرة مريم ذاتها؟ للإجابة فإنه من الأفضل النظر إلى الرواية اللوقانية لحادثة البشارة. يوجد هنا ثلاث نقاط ذات أهمية خاصة. أولاً، والدة الإله تعبّر عن عنصر الفرح في حياتنا المسيحية. هذا ما يشار إليه بالكلمة الافتتاحية “إفرحي” Chaire (لوقا 28:1). في النسخ الأقدم من الكتاب المقدس تترجم بالكلمة Hail (King James, Douai, RSV) كما كانت ببساطة سلاماً عادياً، مرادفة للكلمة العبرية Shalom. وأيضاً (New English Bible) يتبنى بشكل ما الطريقة المطلقة للتحيّة. ولكننا بالتأكيد نعطي معنى أكمل للعبارة، وأيضاً للبقاء أقرب للمعنى الأدبي للعبارة اليونانية، بإتباعنا الإنجيل الأورشليمي نترجم الكلمة Chaire بِـ Rejoice. إذا كان الملاك جبرائيل قد اختار أن يبادر مريم بهذه الطريقة الخاصة، فهذا لأنه يحضر لها “أخباراً جيدة” عن فرح التجسد العظيم. العذراء مريم تظهر أنها هي من تتلقى ملء فرح تحنن محبة الله، والتي هي بالمقابل تنقل هذا الفرح إلى كل الجنس البشري. هذه نقطة أساسية في التكريم الأرثوذكسي للعذراء القديسة. كونها متلقية ومانحة للفرح، فهي تجسِّد عنصر السعادة والابتهاج في حياتنا الروحية. بالنسبة لنا هي مصدر لا ينضب للنور والرجاء. أيقوناتها، كما أشرنا سابقاً تعرف بألقاب مثل “فرح كل المحزونين” و”الفرح غير المتوقع”. في عيد ميلادها (8 أيلول) نرتّل لها: “ميلادك يا والدة الإله بشَّر بالفرح كل المسكونة”. في التسبحة الخاصة بها في قداس باسيليوس الكبير تسمى “فرح كل الخليقة” بينما في المديح نناشدها على أنها “فرح كل الأجيال”.كعلامة وتعبير عن الفرح، فمريم لها ارتباط موضوعي بشكل حاد مع عصرنا الحالي.في المجتمع الغربي المعاصر هناك سعي متواصل وراء اللذة، ولكن بشهادة قليلة للفرحمعنى الفرح كعنصر رئيسي في الخبرة المسيحية يشدَّد عليه بصواب من قبل الأب ألكسندر شميمن (1921-1983): “المسيحية منذ بداياتها الأولى كانت إعلاناً عن الفرح، الفرح الوحيد الممكن على الأرض. صيَّرت الفرح الذي ظنناه غير ممكنٍ ممكناً. مع هذه الاستحالة، في قعر الظلمة، أعلنت وأبلغت عن فرح جديد يشمل الجميع، وبهذا الفرح حوَّلت النهاية إلى بداية. بدون إعلان الفرح هذا، المسيحية تصير مبهمة. فقط كفرح الكنيسة ظافرة في العالم، وخسرت العالم عندما خسرت الفرح، عندما توقفت عن أن تكون شاهدة له. من بين كل الاتهامات الموجَّهة ضد الكنيسة، المخيف أكثر من الكل أطلقه نيتشه عندما قال أن المسيحية لم يعد عندها فرح… أنظروا، إني أحضر لكم أنباء الفرح العظيم، هكذا يبدأ الإنجيل، وينتهي بما يلي: “وسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم” (لوقا 10:2 – 25:24) وعلينا أن نستعيد معنى هذا الفرح العظيم” [FONT=’Times New Roman’,serif][12][/font]بجانب المسيح، والدة الإله هي فوق الجميع “فرح كل الأجيال”، التي تستطيع مساعدة جيلنا الحالي هذا في واجب استعادة الفرح العظيم، هذا الواجب الكلي الأهمية.ولكن الفرح ليس على الإطلاق تفاؤلاً أو ابتهاجاً يتلاشى بسهولة. الفرح، كما يُفهم بالمفهوم المسيحي الحقيقي، ليس هو بمعنى من المعاني مجرد إقصاء للحزن. الفرح الأصيل، كما يقول الكاتب الأرثوذكسي تيتو كولياندر: “لا يحتاج لأسنان الضاحك العارية لكي يعبّر عن نفسه” [FONT=’Times New Roman’,serif][13][/font]التقليد الأرثوذكسي، لدى معرفته مريم كعلامة للفرح، فهو يميِّز أيضاً المعاناة والمشقة التي كان عليها أن تقاسيها. خلال حياتها كانت متحدة مع ابنها في إخلائه لذاته. نُبِذت، طُرِدت، هُمِّشت، هي واحدة من هؤلاء “الفقراء” الذين تتحدَّث عنهم التطويبة الأولى. كما يعبّر عنها الشاعر السرياني نرسيس (502): “المسيح يسكن في حشا الفقيرة”. ولدت ابنها، ليس في أمان بيتها الخاص، ولكن في مدينة حيث كانت غريبة. إذ رحلت من الفندق، لم تجد لتستريح سوى كهف كان إسطبلاً. بعد الولادة أُنذِرت من سمعان “بالسيف” الذي سيخترق قلبها (لوقا 35:2). وكل حياتها عاشتها تحت ظل ذلك السيف.كانت لاجئة، منفية، مجبرة أن تهرب مع ابنها ويوسف إلى أرض غريبة خوفاً على حياتها. ألم والدة الإله إذ وقفت عند الصليب يُذكَر باستمرار في الليتورجية الأرثوذكسية، إنه موضوع سلسلة من القطع الخاصة التي ترتَّل في أيام الأربعاء والجمعة وتعرف باسم الوالدية الصليبية، وأساسها يوصف بإسهاب في “نوح والدة الإله القديسة” لسمعان Logotheteوالذي يقرأ في الجمعة العظيمة [FONT=’Times New Roman’,serif][14][/font]بكلمات القديس سلوان (1866-1938)، القديس المعلن حديثاً في أيار 1988، الراهب الروسي البسيط من جبل آثوس:”لا يمكننا قياس عمق حب والدة الإله، ولكن هذا ما نعرفه نحن:كلما ازداد ملء الحب، ازداد كمال معرفة اللهكلما ازدادت حرارة الحب، كلما ازدادت حرارة وتوهّج الصلاةكلما ازداد كمال الحب، ازدادت قداسة الحياةكلما عَظُمَ الحب، كان الحزن أعظمإن والدة الإله لم تخطىء ولا بفكرة واحدة، ولا خسرت النعمة أبداً، ولكن حزنها كان غير متناه. عندما وقفت أمام الصليب، حزنها كان مثل المحيط غير المحدود، وروحها عرفت ألماً أعمق بغير قياس من ألم آدم عندما طُرِد من الفردوس، وهذا بسبب أن مقياس حبها كان أعظم بلا قياس من الحب الذي كان عند آدم عندما كان في الفردوس… لا يمكننا أن ندرك بشكل كامل حب والدة الإله، وهكذا لا يمكننا أن نفهم أساها. حبها كان كاملاً”كما تشدِّد مواعظ القديس مكاريوس: “هؤلاء الذين ذاقوا عطية الروح يدركون ويشعرون بشيئين في الوقت نفسه: من جهة بالفرح والتعزية، ومن جهة أخرى، الارتعاد والخوف والنوح”. في هذه الخبرة المزدوجة للحزن المفرح دخلت والدة الإله على درجة فائقة. إمتزاج الحزن والفرح هذا واضح بشكل ملفت للنظر في الأيقونة الخاصة التي تستعمل عندما يقع عيد البشارة في يوم الجمعة العظيمة، هذه الأيقونة تظهر رئيس الملائكة يحمل صليباً بالحجم الطبيعي بينما هو يحيّي والدة الإله. بنفس اللحظة التي فيها تسمع التحيّة “إفرحي”، تشاهد أيضاً رمز آلام ابنها.الدعوة المقررة سلفاًهناك سبب محدّد لفرح مريم. وهذا ينقلنا من نقطتنا الأولى إلى الثانية. هي تفرح لأنها مختارة. هيئة مريم في البشارة تعطينا مثلاً عن المعنى الحقيقي للدعوة. دعوتها المعطاة من الله يشدَّد عليها في الكلمة الثانية التي يوجهها لها الملاك ” Kecharitômenê” (لوقا 28:1)، والتي تترجم غالباً “الممتلئة نعمة” (Douai) ولكن ربما بشكل أصح يمكن ترجمتها “المفضَّلة جداً، ذات الحظوة العالية” (King James). مريم تسمّى “مفضَّلة” (favoured)، ممنوحة نعمة لإتمام دعوتها الفريدة. هي منتخَبة، معيَّنة من الله، مكرَّسة بالحقيقة. بالحقيقة، هذا الاختيار له بدايته ليس فقط منذ لحظة البشارة، ولكن منذ الحبل بها وولادتها، وحتى قبل ذلك بكثير. قبل كل الأجيال هي محدَّدة مسبقاً لواجبها الخاص كوالدة للإله. التجسد من العذراء لم يكن حدثاً عرضياً أو كيفما اتفق، ولكنه كان ثمرة تحضير حريص، الأمر الذي كان يُرى خارج الزمن في العناية الإلهية. أزلية دعوة مريم يشَدَّد عليها في العبادة الأرثوذكسية في عيد ولادتها (8 أيلول): “اليوم تولد الخيمة التي سبق تعيينها لإعادة صلحتنا مع الله”، نشدّد في النص الليتورجي لذلك اليوم، “هي محدّدة مسبقاً قبل الحبل بها كوالدة الإله”. كما يعبّر عن هذا البابا يوحنا بولس الثاني “في سر المسيح هي حاضرة حتى قبل خلق العالم، على أنها التي اختارها الآب كوالدة لابنه” إن مريم كمدعوة من الله، فهي تشكّل مثالاً لنا جميعاً. هي التعبير الأسمى لما يعني أن يكون الإنسان صاحب دعوة. صحيح أن دعوتها فريدة، لا أحد من قبل ولا بعد قد صار – بالمعنى الأدبي والجسدي – أماً للإله. بالطبع هنا مفهوم آخر، رمزي ولكنه حقيقي، الذي فيه جميعنا، رجالاً ونساءً على السواء، مدعوون لنكون والدين للإله. إذا كانت هي مدعوة لواجب فريد، هكذا أيضاً كل واحد منا بطريقة مختلفة. يمكننا أن نطبّق، ليس عليها فقط بل على أنفسنا أيضاً، كلمات المعلم اليهودي (Barukh of Mezbizh): “كل واحد عنده الدعوة لعمل شيء كامل في هذا العالم. العالم بحاجة لكل إنسان بذاته”. في الدينونة الأخيرة، السؤال الحاسم – تساؤل التساؤلات – الذي سيعطى لكل واحد منا هو تماماً لماذا لم نوصل إلى المنتهى ذلك الوجود الإنساني الوحيد والفريد الذي كل واحد منا كان مدعواً ليكونه، لماذا لم نميّز، كل واحد منا، ذواتنا الحقيقية؟ لنأخذ قولاً من (Tales of the Hasidim): “قبل موته، قال الرابي Zusya: “في العالم الآخر، لن يسألونني: لماذا لم تكن موسى؟ سوف يسألونني: لماذا لم تكن Zusya ؟”. الله لا يعمل الشيء نفسه مرتين. نحن البشر لسنا حاويات قابلة لاستبدال أحدها بالآخر، لسنا قوالب مبرمجة على كمبيوتر، ولكن داخل كل واحد منا هناك كنز لا يقدّر بثمن ولا يوجد عند أي أحد آخر. منذ الأزل شاهد الله كل واحد منا في تمايزه الكلي، كما شاهد والدة الإله في تمايزها. ومن كل واحد منا، كما منها، هو يرجو الشيء الذي لا يتوقعه من أي أحد آخر. كل واحد منا هو محدَّد مسبقاً، مختار في المسيح “قبل خلق العالم” (أفس 4:1). هنا أيضاً نشاهد موضوعية والدة الإله، ارتباطها بمجتمعنا الغربي المعاصر. في عصر مثل عصرنا، عندما الكثيرين منا يُبتلون بضياع الهدف، شعور بعدم الفائدة، نقص في تقدير النفس، المغبوطة مريم ترينا ما معنى أن تكون مختاراً من الله.في إدراكها وقبولها لدعوتها، في موقع انفتاحها، مريم تقف أمامنا بشكلٍ سامٍ على أنها الذي يصغي بإيمانٍ طوعياً. الإيمان هو جوهر إستجابة مريم في البشارة، والإيمان يفترض الإصغاء. عندما نفكّر في طاعتها، من المهم إعطاء الكلمة “طاعة” مفهومها الحقيقي والأدبي. في اللاتينية “obtaudire” وفي اليونانية “hypakoi” تفيد “أن أسمع”، “ليكن لي بحسب قولك” مريم تجيب الملاك (لوقا 38:1). والدة الإله تصغي لكلمة الله. القراءة الإنجيلية في معظم الأعياد التي على شرفها مركَّزة على رد المسيح للمرأة في المجمع: “بل مغبوطون هم الذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها” (لوقا 28:11). هذا الجواب، من وجهة نظر سطحية قد تبدو وكأنها تقلّل من شأن والدة الإله، ولكنها بالحقيقة تشير إلى ما هو مجدها الحقيقي.هي مغبوطة، ليس بمجرد فضيلة ولادتها الطفل بالجسد حقيقةً، ولكن بالأحرى أيضاً لفضيلة العمق الروحي لإيمانها الداخلي ويقظتها لكلام الله. لو لم تكن أولاً قد تعلّمت أن تسمع كلمة الله في قلبها، لما استطاعت أبداً أن تلد الكلمة متجسّداً في جسدها.الإنجيل بتكرار يؤكّد على هذه الخاصية لمريم، أنها من يصغي. بعد سجود الرعاة، يقال أن “مريم حفظت كل هذه الأشياء متأملة بها في قلبها” (لوقا 19:2). كلمات مشابهة ترد بعد اكتشافها ليسوع ذي الإثني عشر عاماً في الهيكل :”أمه حفظت كل هذه الأشياء في قلبها” (لوقا 51:2). أهمية الإصغاء واضحة وجلية في كلمات مريم ذاتها للخدّام في عرس قانا الجليل “مهما قال لكم فافعلوه” (يوحنا 5:2). هذا هو القول الأخير المسجَّل لوالدة الإله في العهد الجديد، وهو يلخِّص بدقة ميراثها الروحي للجنس البشري: “مهما قال لكم فافعلوه”. أصغوا، إنتظروا الله. مرة أخرى ارتباط مثال مريم بعصرنا الحالي هو ظاهر بسهولة. عالمنا هو المكان الذي فيه تتضاعف الكلمات ببراعة غير عادية – على الراديو والتلفيزيون، على أشرطة الكاسيت، الطابعات ومنتجات الورق – ولكننا نسينا فن الإصغاء. والدة الإله، الشخص الذي يصغي، بمثالها الخاص يمكنها مساعدتنا في إعادة إكتشاف الأبعاد الضائعة للعالم الداخلي. الروحانية البيزنطية ترى فيها الهاديء (hesychast) المثالي، أيقونة حية لما يعنيه اختبار الهدوئية، سكون القلب. كلمات صاحب المزمور: “إهدأ، واعلم أني أنا هو الله” (مز 11:46) تنطبق عليها تماماً. استجابة بحرّيةإذاً، كل هذا نتعلّمه حول مريم من رواية البشارة. هي مصدر فرحنا، ومن خلالها نحن قادرون أن نفرح. هي تعلّمنا بمثالها ما معنى أن يكون عندك دعوة، وكيف تكتشف هذه الدعوة من خلال الإصغاء في صمت مبدع. ولكن قصة البشارة تخبرنا شيئاً آخر. في المقام الثالث، تشير القصة كيف أن المغبوطة مريم هي صورة للحرية والتحرر الإنساني. مريم مختارة، ولكن هي نفسها تختار. رواية القديس لوقا تتحدّث ليس فقط عن دعوة إلهية ولكن أيضاً عن استجابة بشرية، يضع أمامنا كامل حوار النعم مع الحرية. مريم كانت محدَّدة مسبقاً لتكون والدة الإله، ولكنها أيضاً كانت حرّة. الثالوث القدوس كان عنده خطة لها ولنا جميعاً، ولكنه لم يفرض تلك الخطة بالقوة. كما يقال في “الرسالة إلى ديوجينس” :”الله يحثّ، ولكنه لا يُجبِر، لأن العنف غريب عن الطبيعة الإلهية” [FONT=’Times New Roman’,serif][15]. [/font]في البشارة، الله ينتظر القبول الطوعي لتلك التي اختارها لتكون أمه. إنه يطلب سماحها. “ها أنذا أمة للرب، فليكن لي بحسب قولك” (لوقا 38:1). في رد مريم نجد الإنسانية تقول نعم لله. وهذا الرد، أي قبول دعوتها المقرّرة سلفاً، ليست خاتمة موضوعة سابقاً. كان بإمكان مريم أن ترفض. هي لم تكن مجرّد أداة مطواعة لتجسد الله ولكن مشاركاً فعالاً في السر. ما نشاهده فيها ليس الاستسلام بل الميثاق، ليس الخضوع بل المشاركة، ليس الإذعان بل تبادل العلاقة. هي صانعة قرار. كما يشدد البابا بولس السادس في (Marialis Cultus)، هي “أُخِذَت إلى حوار مع الله”، وهي “تعطي موافقتها الفاعلة والمسؤولة”. علينا أن ننظر إليها ليس كـَ “إمرأة خاضعة بجبنٍ” ولكن كمن يقوم بـِ “خيار شجاع”. كلمات القديس بولس “نحن مشاركون بالعمل “synergoi” مع الله” (1كور 9:3)، تنطبق عليها بشكل أساسي. هي تعبّر، بالتمام أكثر من أي إنسان آخر، عن الطبيعة الأصلية للمشاركين بالعمل، للتعاضد بين النعمة الإلهية والطبيعة البشرية. كما يعبّر عن هذا القديس إيريناوس أسقف ليون (200): “مريم تتعاون مع التدبير”. ليست هي مجرّد أداة بل مثل مدير مساعد (joint operator)، وكيل أو عامل (actor). البابا الحالي بنفس الطريقة يلفت الانتباه إلى هذه السمة لوالدة الإله في منشوره البابوي مشيراً إلى “التعاون الكامل مع نعمة الله”، إنها بالتأكيد حقيقة لافتة للنظر أنه، بينما أن خلق العالم تم ببطء بعمل الإرادة الإلهية، فإن إعادة خلق العالم قد بدأ بالتحقق، بواسطة تدبير الله، بقرار فتاة ريفية شابة مخطوبة لنجار.بينما الكاثوليك يوافقون بسهولة مع الأرثوذكس حول الأهمية الحاسمة لاختيار مريم الحر، فغالباً فإن وجهة مختلفة يتم تبنيها من الكتاب البروتستانت، خصوصاً هؤلاء الذين هم من التقليد الكالفيني. “ليس هناك إقتراح”، يقول الكالفيني المحافظ جون وينهام عن البشارة، “أنها هي تتخّذ قراراً يعتمد عليه خلاص العالم”. هو يلجأ إلى جملة كارل بارث والتي هي خطأ أساسي، هرطقة يجب أن يقال لها “لا” بصرامة، وهي أنه يرى في مريم “مخلوقاً إنسانياً يتعاون كخادم في إفتدائه الذاتي على أسس النعمة السابقة”.بالنسبة لبارث، علينا فهم دورها “في شكل اللاإرادي، غير المنتج، غير المبدع، ليس إنساناً ذو سيادة، ولكن في شكل الإنسان الذي يستطيع فقط أن يتلقّى، مجرّد أن يكون جاهزاً، مجرّد أن يدع شيئاً يُعمَل له ومعه”.المسيحي الأرثوذكسي مدفوع ليعترض على هذه النقطة. بينما لا يوجد أي تساؤل أو شك حول أولوية نعمة الله في المرتبة، فنحن نؤمن أن قيمة كاملة يجب أن تعطى أيضاً للحرية البشرية. “بدوني لا يمكنكم أن تعملوا شيئاً” يقول الرب (يوحنا 5:15). لكن إرادتنا الحرة هي أيضاً لا غنى عنها. إذا كان صحيحاً أننا بدون الله لا نستطيع أن نعمل شيئاً، عندها صحيح أنه بدوننا الله لن يعمل شيئاً. بكلمات القديس مكاريوس في مواعظه “الإرادة الإنسانية هي شرط أساسي، لأنه بدونها الله لا يعمل شيئاً” [FONT=’Times New Roman’,serif][16]. أهمية قبول العذراء الطوعي ظاهر بقوة في قانون صلاة السحر في عيد البشارة، الذي يأخذ شكل حوار بين والدة الإله ورئيس الملائكة. القانون يكشف تساؤل مريم إلى أقصى حدّ: “كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟” (لوقا 34:1) مريم تعبّر عن شكوكها مباشرة بصلابة، وكل ارتباكها وإحراجها يصير واضحاً. فقط بعد تردّد طويل هي توافق أخيراً أن تقبل خطة الله لها المعلنة بواسطة جبرائيل. بهذه الطريقة نستنتج بوضوح كبير أنها تتصرّف بحرّية كاملة وليست بأي شكل تحت الإكراه.[/font]الاشتراك الفعّال لوالدة الإله في التجسد يشدَّد عليه بشكل خاص من قبل لاهوتي القرن الرابع عشر البيزنطي، القديس نيقولاس كاباسيلاس. في كلماتٍ للقديس نيقولاوس يوردها، بين أخرى، اللاهوتي الروسي فلاديمير لوسكي (1903-1958) يقول كاباسيلاس: “تجسّد الكلمة لم يكن فقط عمل الآب والابن والروح القدس – الأول بالرضا، الثاني بالتنازل والانحدار، الثالث بالتظليل – ولكنه أيضاً كان عمل إرادة وإيمان العذراء. بدون الأقانيم الإلهية الثلاثة، هذا التصميم لم يكن ممكناً أن يبدأ بالتحقيق. ولكن بنفس الطريقة لم يكن ممكناً جعله موضع التطبيق بدون قبول وإيمان العذراء الكلية الطهارة. فقط بعد تعليمها وإقناعها، الله يجعل منها أمّه ويتلقى منها الجسد التي تريد أن تهبه له بإرادة واعية. كما أنه هو كان مدفوعاً باختياره الحرّ، هكذا بنفس الطريقة هي صارت أمّه طوعياً وبموافقتها الحرة” [FONT=’Times New Roman’,serif][17].[/font]كاباسيلاس ليس بيلاجيّاً، لأنه يقبل أولوية النعمة الإلهية: “بدون الأقانيم الثلاثة الإلهية هذا التصميم لم يكن ممكناً أن يبدأ بالتحقيق”، ولكنه على السواء يدرك المساهمة الكليّة الأهمية المفعولة من قبل حرية العذراء المخلوقة. إذا كنّا نكرّم مريم، فهذا ليس ببساطة لأنها اختيرت من الله، ولكن لأنها هي نفسها اختارت على نحو صحيح.في عصر، الذي الكثيرين فيه مستعبدون – البعض خارجياً والبعض داخلياً – والدة الإله ترينا ما هو أن تكون حرّاً: كم هي صعبة الحرّية، كم هي مأساوية بعدة معاني، وأيضاً كم هو أساسي أن نكون أشخاصاً حقيقيين. من خلال هذه الاستعمال الصحيح للحرية الشخصية، كما في البشارة وخلال حياتها، هي تظهر لنا بهذه الطريقة ماذا يعني أن نكون بشراً بأصالة. هي نموذجنا ومثالنا، المرآة التي فيها نشاهد وجهنا الأصلي الصافي. إذا أردنا فهم الأبعاد الكاملة للشخصية الإنسانية، ننظر قبل كل شيء إلى المسيح آدم الثاني، وبعد ذلك، بجانب المسيح، ننظر إلى مريم حواء الجديدة. كما يعبّر عن هذا G. K. Chesterton “الرجال هم رجال، ولكن الإنسان هو إمرأة”. (Men are men, but Man is a woman)ما يميّز الوجود الإنساني عن بقية الحيوانات هو بشكل رئيسي حرية الاختيار، القدرة على صنع قرارات أخلاقية بوعي وبحس المسؤولية أمام الله. هذه النوعية المميَّزة للحرية الإنسانية هي عنصر رئيسي فيما نعني بصورة الله. ولا يمكن رؤية هذه الحرية معبَّر عنها بالحقيقة في أي شخص مخلوق مثل والدة الإله. بالتعاضد مع الله بإرادة، تصير شخصاً حقيقياً بالصورة والمثال الإلهيين، الثمار الأولى للخليقة الجديدة. هي “الإنسان الأول” الذي “أولاً ووحده يظهر طبيعتنا”. يوم ميلادها هو يوم ميلاد الجنس البشري، أو بالأحرى كل العالم. المديح يصف هذا بتعابير مماثلة: إفرحي يا إنذاراً ساطعاً بمجد القيامةإفرحي يا بدء الخليقة الجديدة والروحيةفي هذا السياق، بإظهار مريم كأنها عالم صغير للخليقة الجديدة، يمكننا فهم صعودها إلى السماء. هذا الصعود يشدَّد عليه بوضوح في العبادة الأرثوذكسية، ولو لم نرد أن نراه مجدداً كعقيدة. تمجيد والدة الإله بالجسد يمكن تفسيره وإبرازه بمصطلحات أنثروبولوجية واسخاتولوجية (أُخروية). بما أن الشخص البشري هو وحدة كاملة للروح والجسد، فإننا ننظر أبعد من الموت إلى قيامة الجسد في اليوم الأخير. ونحن نؤمن أنه في حالة والدة الإله فإن هذه القيامة الأخيرة هي حالاً حقيقة منجزة. بالرغم من أن صعودها من وجهة نظر أولى هو امتياز فريد، ولكنه أيضاً توقّع لما هو أمل البشرية بالكامل. ذلك المجد نفسه الذي تتمتّع به مريم الآن، كلنا نثق برحمة الله أننا سنشاركه في نهاية المطاف. التأكيد على تمجيد العذراء بالجسد هو بيان ليس عنها فقط بل عن الشخصية الإنسانية أيضاً.مثالنا الفريدمريم والدة الإله يمكن رؤيتها أو مقاربتها من وجهتي نظر مختلفتين. من جهة، في دورها كوالدة الإله يمكن أن تُرى كشخص فريد. في كل تاريخ الجنس البشري يوجد تجسد وحيد، ولهذا يمكن أن يكون هناك أم واحدة للمتجسّد. ولكن، من جهة أخرى، هي نموذجنا ومثالنا، وعلينا أن ندرك ليس فقط فرادتها، ولكن ما نشاركه في التشابه معها. كونها حواء الجديدة فهي تعبّر عن إنسانيتنا الكونية. إذا كانت هي قد اختيرت من الله واؤتمنت على دعوة مميزة، فكذلك نحن أيضاً، كل واحد منا في فرادته. إذا كانت هي قد استجابت طوعياً لنداء الله وتعاضدت معه بحرية، هكذا نحن أيضاً بإمكاننا فعل الشيء نفسه. كونها ترينا المعنى الحقيقي لما هو أن تكون شخصاً – بالاستعمال الصحيح لأغلى الهبات الشخصية، حرية الاختيار – فهي تشكّل أفضل وأكمل تقدمة تستطيع إنسانيتنا أن تقدّمها للخالق.بكلمات تسبحة أرثوذكسية تقال في غروب الميلاد:ماذا نقدّم لكَ أيها المسيحيا من ظهرتَ على الأرض كإنسان لأجلنا؟فكل مخلوق من صنعك يقدم لكَ شكراًالملائكةُ التسبيحَالسمواتُ النجمَالمجوسُ الهداياالرعاةُ التعجُّبالأرضُ المغارةالقفرُ المذودونحنُ نقدّم لكَ أماً بتولاً.