الملائكة

يشتـق لفـظ “ملائكـة” من فعـل “لأَكَ” أي أبلـغ والملائكة تالياً هم تلك الكائنات التي تبلّغ الناس إرادة اللـه. وبذلك لا يكـون لفـظ “ملائكـة” دالاًّ على طبيعـة الملائكـة بل علـى وظيفتـهم التبليغيـة. وهم “أرواحٌ في خدمة اللـه يرسلهم من أجل الذين يرثون الخلاص” (عبرانيين 1: 14). ويتسمّـى الملائـكـة بأسمـاء تتنـاسب مع وظائفـهم: فجبرائيل “بطل اللـه” وميخائيل “من مثل اللـه؟” وروفائيل “اللـه يشفي” … كما يعـرف العهـد القـديم ملاكـاً للـه لا يختـلف عن اللـه نفسه الذي يتجـلّى في هـذه الدنيا بشكل مرئي (تكـوين 16: 13). ونجد أثـراً في العهد الجديد لهذا المـلاك تحت اسـم “مـلاك الرب” (متى 1: 20 ،24)…
يمتـاز الملائكـة في العهــد القديم بأنهم كانـوا يحفظون البشر: “لأنه يوصي ملائكـتـه بك لكي يحفظوك في كل طـرقـك” (مزمور 91: 11)، ويـرفعـون صلواتهم الى الله (طوبيا 12: 12)، ويوجّهون مصـير الأمم (دانيال 10: 13-21). وكان المـلائكة، منذ زمـن حزقيال النبي، يفسّرون للأنبياء معنى رؤاهم (زكـريا 1:8-9) فأصبـح ذلـك ميـزة من ميـزات الأدب الرؤيوي. إن اعتقاد العهد القـديم في شأن وجود العالم الملائـكي واتصالـه بالبشــر يتـأكد باستمرار مترافقاً برموز وإشارات خاصة. يحصي العهد الجديد من الرتب الملائكية الوارد ذكرها في العهد القديم، فيتحدّث عن رؤساء الملائكـة (1تسالونيـكي 4: 16)، والكـروبين (عبرانيين 9: 5)، وأصحاب العـروش أو السيادة أو الرئـاسـة أو السلطـة (كـولوسي 1: 16). ولكن ليس لتسلسل الرتب هذا قيمة عقائدية محـددة، بل له طابع ثـانوي إذ إنّ المهـم هو إدراجه في إطـار

الوحي الذي تمّ بيسـوع المسيـح.
يحتلّ الملائكـة في العهد الجديد مكانـاً مميّـزاً في حياة السيد المسيح، ويتبيّن من خلال كلامه عنهم أنهم كائنات حقيقية وفاعلـة. فهم “يخدمونـه” (متى 4: 11)، وأحدهم “يقوّيـه” في جبل الزيتـون (لوقا 22: 34). وهم في أثناء سهرهم على البشر “يرون وجه الآب الذي في السموات” (متى 18: 10). ومع أنّهم يجهلون يوم الدينونة الأخيرة الذي لا يعرفه إلاّ الآب وحده (متى 24: 36)، إلاّ أنّ عليهم تنفيذها: “فيرسل (الله) ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح من أقصاء السموات إلى أقصائها…” (متى 24: 31)، ويخرجون من ملكوته جميع الهالكين (متى 13: 41-42). وهم منذ اليوم يشاركون الله في فرحه بتوبة الخاطئين (لوقا 15: 10).
والملائكة يواكبون ابن البشر يوم مجيئه الثاني (متى 25: 31)، و “يصعدون وينزلون عليه” (يوحنا 1: 51)، مثلما جرى في العهد القديم على سلّم يعقوب (تكوين 28: 12). وكان في وسع المسيح أن يطلب تدخّل الملائكة لكي يخلّصوه من الآلام المزمع أن يقاسيها، فيقول لبطرس: “أتظنّ أنّي لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدّم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة؟” (متى 26: 53).
ما يكرره العهد الجديد بصورة دائمة هو رئاسة المسيح على كل الخليقة والملائكة منها. فالمسيح “أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم” (عبرانيين 1: 4)، وهم يسجدون له كونه ابن الله ويخضعون له (عبرانيين 1: 6)، ويعتـرفـون بربوبيتـه (رؤيا 5: 11-12)، ويواكبونه في اليوم الأخير (2 تسالونيكي 1: 7). وواضح أنّ المسيح منذ قيامته أجلسـه الآب فوق الملائكـة: “فوق كل رئاسة وسلطان وقـوة وسيادة وكلّ اسمٍ يُسمّى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً” (أفسس 1: 20-21).
يلعب الملائكة الدور ذاته الذي لعبـوه في العهـد القديم، من حيث أنهم يبلّغـون إرادة الله إلى العالم. فجبرائيل يبلّغ البشرى بيوحنا ويسوع (لوقا 1: 19 و26)، وجمع من الملائكـة يرنمـون ليلـة ميلاد المسيـح وأحدهم يبشّر الرعاة بـ”فرح عظيم يكون لجميع الشعب” (لوقا 2: 8-14). وملائكة آخرون يعلنـون القيامة (متى 28 :5-7)، وملاكان يفسران للرسل حدث الصعود (أعمال 1: 10-11)…
لا شك أن ثمـّة تواصلاً بين العالم الأرضي والعالـم السماوي ممثلاً بالملائكـة. فإنهم يقـومـون بعبادات دائمـة منشـدين: “قدّوس قدّوس قدّوس الرب الإلـه القادر على كل شيء الذي كان والكائـن والذي يأتي…” (رؤيا 4: 8-11). يقـابـل هـذه الأناشيـد الملائكيـة أناشيـد أرضيـة يقيمها المؤمنـون في عبـاداتهم، وبخاصة في مواقع عدة من القداس الإلهي، وهنا لا ينبغي الاكتفاء بالمقابلـة بل يجـب التحدّث عن المشاركة في عبادة اللـه بين الملائكـة والبشـر. ويحذّر الرسول بولس من عبادة الملائكـة، التي ربما كانت سائدة آنذاك، لأن هذا يسيء الى عبـادتنا ليسـوع المسيح (كولوسي 2: 18).
لا بد ختاماً من التأكيد أنّ العالـم غير المنظور الذي يحيط بنا يبقى عالماً سرياً لا قدرة للإنسان على سبره. من هنا يبقى وجود الملائكـة أم عدمـه رهناً بالإعلان الذي تمّ بيسوع المسيح. غيرَ أنّ المسيح ورسله يؤكدّون بصورة دائمة على أنّ الملائكة يخضعون لله وللمسيـح، مخلّص العالم وسيّـده، وينفّـذون أوامره بطاعة كاملة. ولذلك فإنّ تلك الكائنات السماوية، التي اسمها الملائكـة، حاضرة في حياة الكنيسة إلى اليوم الأخير، إلى حين يبوّق أحدهم بمجيء الرب ليدين الأحياء والأموات.