‫الـصــلاة

بقلم الأرشمندريت د. ميلاتيوس بصل، عن مجلة “أبناء التجلي” رام الله

 

الصلاة هي حركة الوصل بين الإنسان والله، ولم تكن الصلاة ذات منفعة بدون المسيح. في الفردوس صلاة آدم الإنسان الأول كانت الطاعة والصوم وكان ينعم بمواهب العدل الاولى. كانت الصلاة مباشرة وغير محتاجة لوسيط. ولكن بعد ان توقف الأول عن الصلاة وعصى أمر الله وكسر صومه وأكل من شجرة وسط الجنة المحرمة عليه، دخل في غيبوبة الأنا والكبرياء.

لم يَثبت الإنسان الأول بالطاعة والصوم والغبطة، بل بدأ يبحث عن حجة يغطي او يبرر بها عصيانه. غروره أنانيته جعلته يدخل بالموت الروحي ويُطرد من الجنة وهكذا هُشمت الصورة التي خُلق عليها.

آدم على الأرض، ومنذ طرده من الجنة، ازدادت الخطيئة وتفاقمت، ولم يعد يعرف الإنسان كيفية العودة الى الله، والتواضع حلَّ مكان الكبرياء، والوداعة مكان الغضب والمحبة مكان البغض…

صارت الصلاة مجدداً محاولة لفتح باب الجنة، الباب المحروس من الملائكة ” فأخرجه الربّ الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أُخذ منها، فطَرَدَ الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ” (تكوين 3: 23-24). فالصلاة إذن أخذت طابع البحث عند مفتاح باب الجنة. أصبحت الصلاة بحث عن مخلصٍ يخلص البشرية من الأنا.

جاء المسيح وتجسد كلمة لله، افتدى البشرية بدمه، فاعطى للبشر مفتاح الجنة وهو الصليب. إذن، المفتاح مُتوفر الآن وممكن الحصول عليه والعودة إلى الجنة. وللحصول عليه يحتاج الإنسان إلى الصلاة الحقيقية. الصلاة الآن ليست مجرد نص وكلمات تُقال، الصلاة الآن هي كيفية إستعمال مفتاح الجنة بشكل صحيح. إذن الصلاة هي أسلوب الحياة.

لا يمكن أن أُصلي بخشوع وأنـا مُتكبر، الصلاة هي التواضع. لا يمكن أن أُصلي على عجلة الصلاة هي الصبر. لا يمكن أن أُصلي وأنا غاضب حقود، الصلاة هي المسامحة وطول الأناة. لا يمكن أن أُصلي وأنا كاذب، الصلاة هي الصدق والعدل والحق. لا يمكن أن أُصلي وأنا متزين بالزينة الدنيوية، الصلاة هي قنية سماوية.

الصلاة هي الفضيلة، هي المحبة. ويعلمنا يوحنا الحبيب اللاهوتي أن الله محبة. “مَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ “وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي ِللهِ فِينَااَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ” (1 يوحنا 4: 8 و4: 16). فعندما يُصلي الإنسان بتوبةٍ وحق وفضيلة، يُصلي صلاة حقيقية مع الله، لأن الصلاة هي صلة الوصل بين الإنسان والله.

يقول الرب يسوع: “من يأكل جسدي ويشرب دمي ثبت فيَّ وأنا فيه” (يوحنا 6: 56). لا استطيع الاشتراك في جسد ودم يسوع المسيح الرب، بدون تهيئة واستعداد. إذن يجب الاستعداد، والإستعداد هو الصلاة، التوبة، التخشع، الفضيلة. “مَنْ أَكَلَ هذَا الْخُبْزَ، أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ، بِدُونِ اسْتِحْقَاق، يَكُونُ مُجْرِمًا فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ. (1 كورنثوس 11: 27-29).

أباء الكنيسة يعلمون كيفية الصلاة الحقيقية، بكتاباتهم وتعاليمهم وبنمط حياتهم يعلمون التواضع والإتصال مع الله والغبطة.

الشهداء استطاعوا احتمال الألم والعذاب والخوف بالصلاة والمسامحة.

الكنيسة تتغذى بالصلاة، وترتوي من ينبوع فضائل الصلاة، وتوزع النعم على أعضاء الجسد الواحد، الصلاة هي الشريان ويصل بين أعضاء الجسد والرأس، بين المؤمنين والمسيح الرب.

الصلاة المسيحية الحقة هي واحدة بالجوهر ونوعان بالأسلوب. صلاة جماعية وهي محفل المؤمنين في الخدم والطقوس وتتم بمواعيد محددة. والصلاة الفردية وهي بمواعيد وبلا مواعيد محددة يخصصها الإنسان المؤمن مع مرشده الروحي، وكلا الأسلوبين ضروري الواحد يُكمل الآخر لتصير صلاة واحدة حقيقية وحياة المسيح.

الصلاة الجماعية نص مكتوب اعتمدته الكنيسة، وبوشر منذ عهد الرسل وتطور ووصل إلينا بصورته الحالية الحقيقية. الصلاة الفردية أيضاً نص مكتوب وغير مكتوب، النص المكتوب للصلاة الفردية هو عام وخاص، يلخص هموم وطلبات واحتياجات المؤمن وهي عبارة عن نص إرشادي وخشوعي.

في كثير من الحالات الإنسان يحتاج إلى خصوصية معينة، ويحتاج لأن يعبر عن ما في داخلـه بطريقته ويعطـى له أن يصلـي صلاته الفردية وتأمله الروحي بطريقته وبكلماته. والصلاة مُستجابة عند ربّنا “ان طلبة البار تُقتَدر كثيراً في فعلها” (يعقوب 5: 16). ولكن تذكر أيها الإنسان إن الصلاة هي المحبة فيجب أن نصلي لأجل محبينا ومبغضينا، الصلاة هي المسامحة والتواضع والوداعة…

يُعلمنا الآباء النساك الصلاة الروحية التي تتم وتُتلى باستمرار وبلا انقطاع بحسب قول بولس الرسول “صلوا بلا انقطاع” (1 تَسالونيكي 5: 17)، وهذه الصلاة بعقيدة إيماننا وتقليدنا الشريف هي موجز لمطالبنا وهمومنا.

ما هي هذه الصلاة؟؟ هي الصلاة التي علّمها الملاكُ للبار بيمن أبو الرهبان، وهي صلاة المسبحة.

المسبحة هي عدة عقد من مجدولة بخيط صوفي على شكل دائرة وتغلق بصليب، منها ذات 33 عقدة ومنها 50 عقدة ومنها 100 عقدة وهكذا وكلها واحدة ويترتب عدد عقد المسبحة مع المرشد الروحي.

نتمم صلاة المسبحة بموعد محدد أو في أية لحظة ولحظة، وهي ان نرسم إشارة الصليب علينا ثم نمسك عقدة عقدة ونتمم على كل عقدة الجملة الروحية التالية:

أيها الرب يسوع المسيح، ابن الله ارحمني أنا عبدك الخاطئ”

إذا أتممنا الصلاة هكذا بحق وتواضع ومسامحة وفضيلة ومثابرة، يلتهب قلبنا غبطة وبهجة روحية.

كذلك نستطيع أن نُصلي المسبحة لأجل مريض قائلين على كل عقدة: “أيها الرب يسوع المسيح ابن الله اشف عبدك (فلان)”

وأيضاً بالإمكان طلب شفاعة قديس ما بصلاة المسبحة قائلين على كل عقدة: “أيها الربّ يسوع المسيح ابن الله بشفاعة قديسك (،،،) ارحمني (أو اشف عبدك،،) وهكذا، صلاة المسبحة هي صلاة شاملة تعبر عما في قلبنا، وهي سريعة الاستجابة. “فإن صلاةَ الإيمان تُخلص المريضَ والربّ يُنهضه، وإن كان قد ارتكب خطايا فتغفر له” (يعقوب 5: 15).

أيها الإنسان لا يمكن أن تكون صلتنا بشخص ما حميمة وقوية إذا لم تكن علاقتنا قريبة ومتواصلة، فكما يقول المثل الشعبي “البعد جفى”. فكيف إذاً تكون علاقتنا مع الله؟ فالصلاة هي التي تقربنا منه هي التي توحدنا معه هي التي تفتح لنا باب الفردوس.

فصلوا بلا انقطاع. وشفاعة أم النور العذراء مريم الدائمة البتولية وجميع القديسين ونعمة القبر المقدس تكون معكم.