العنصرة

بقلم: المطران جورج خضر

بعد ارتقاء المسيح في ناسوته المبارك الى السماء او من بعد ان رفعه الله اليه كما يقول القرآن صار الرب يتدبر اهل الله والتاريخ والكون بهذا الذي تسميه الاناجيل الروح القدس. وهذه الرعاية للدنيا نقول لها، بالمصطلح المسيحي، العنصرة التي تشير، حدثا ومعنى، الى انعطاف الله على التلاميذ “بصوت كما من هبوب ريح عاصفة” و”بألسنة منقسمة كأنها من نار”. ثمر الصعود كان ان المسيح الجالس على العرش صار في من هم له صوتا أي كلمة وصار ناراً أي حباً ومواهب حب. فبالكلمة الملتهبة تتكون الكنيسة وبلا لهب ليس من شيء. سوف يأتي من يعمدكم “بالروح والنار”. الذي يحمل الروح يعمد بالروح اذ يكون كالعليقى التي شاهدها موسى يلتهب ولا يحترق ومن سمعه يأخذ منه ويصير مثله.

من هنا ان حياتنا في المسيح تهبط علينا من عنده ولا تتجمد فينا. فالمسيحي وليست اسمنتا مسلحا. هو يصير من هذا الذي يتنزل عليه ولذلك كان حركة والكنيسة حركة وليست هي مؤسسة. النفس المؤمنة ومجموعة النفوس نهر يجري وانت تصطبغ كل يوم. واذا قلنا بمعمودية واحدة فلكونها وعداً الى الآب، وعداً بالماء الحي الذي اذا شرب منه الانسان لا يعطش ابدا.
هنا لا بد لي ان انبه ثانيا الى اهمية الصوت الذي سمعه الاوائل، الى الكلام المقول الذي جاءنا انجيلا وما احاط الانجيل من فهم للتحذير من خطر الرؤى التي يقال لنا ان هذه المرأة او تلك تشاهدها (اكثر الرائين نساء) في كل عصر يزعم ناس ان لهم اتصالات مباشرة مع المسيح او العذراء وانهم يتلقون من السماء رسائل بوسائل شتى من ظهورات حسية واملاء فتدوين. وهذا يجري في بلدنا وغير بلدنا وفي هذا كتب. ولهذا تأييد من مرجعيات دينية تتفاوت بالدرجة.
انا لا اريد ان اتعرض لحقيقة ما يدعيه هؤلاء الناس من رؤى. ولست بمُصدر حكما شاملا جامعا. هل هذه الاشياء راهنة ام غير راهنة؟ هل هناك خلل نفسي احيانا ام تهيج خيالي منطلق من حماسة دينية اولى؟ لست اعلم ولا يهمني ان اعلم هل الخوارق التي تصطحب احيانا هذه الرؤى ثابتة ام غير ثابتة. الكنائس كلها حذرة من هذه الظواهر لكن قلة من الناس موهوبة لما نسميه “تمييز الارواح” او الحكمة الالهية في فحص هذه الامور. من المؤسف ان كثرة البشر سريعة التصديق للحكايات الدينية ولاعتبار ان الخيال المتدين جزء من الايمان.
ما أعرفه من تراث كنيستي انها لا تشترط معجزة لتثبيت قداسة انسان. فمن المؤكد ان بعضاً من القديسين القدامى لم تنسب اليهم أعجوبة وقدستهم الكنيسة بسبب طهارة السيرة أو استقامة تعليمهم. ان يتدخل الله في حياتي بأعجوبة أو لمسات روحية فهذا يحصل لكل من أحبهم السيد وهذه رسالة الى كل منهم وهم وحدهم يقرأونها لان هذا من باب العلاقة الحميمية بين المؤمن وربه. فلا يذاع شيء عن النشوة الروحية التي تأخذها وكثيراً ما كانت في عمقها أقوى من المعجزة.
انا اسائل ولست أنكر. ولكن لا يهمني ان أؤكد بعدما تسلمت كلام الله كاملاً وبعد حلول الروح القدس كل يوم فيّ وفي سواي. والكلمة والروح يكفياني واليهما مرجعنا جميعاً أكنا من محبي الخوارق أم لم نكن. ان الخطر في كل ذلك هو الانشغال الضخم بكل هذا على حساب الكلمة الالهية والله هو القائل: “آمنوا بسبب الكلام الذي اكلمكم به”. القضية ليست في ان نختلف بين أهل الرؤى وأهل الكتاب. لكن الاتزان الروحي يقضي ليس فقط بالقول بأولية الكلمة ولكن بأن تكون هي القوة الأساسية التي يسكن اليها القلب كما يقضي الاتزان بان نفحص كل روح اذا كان من الله كما أمر بذلك بولس.
ان تركيزي على الكلمة يستند الى قول المخلص ان دور الروح هو ان يفكر المؤمنين بما قاله المعلم (يوحنا 26:14). فما من كلمات جديدة بمعنى ان ليس من مضمون جديد غير هذا الذي أعطي. هناك طبعاً كلمات تتجدد وتجدد بمعنى احياء نفس القارئ بما يمدها الروح من حيوية وذوق الهي هو لها. فما من شك في اننا، ولو تشابهنا روحياً بسبب من عمق الصلاة الواحدة والمحبة، فلا يقولبنا قالب ويحفظ كل منا شخصيته واداءه وما يتحسسه مما كشفه الله له وما يفهمه من علاقة الرب بالزمان واشيائه. كل منا ايقونة فريدة ولا يرى الله اليها كما يرى الى ايقونة اخرى وكلها واحدة في هيكله السماوي. وهذا ما يعبر عنه كلام أعمال الرسل ان الألسنة كانت منقسمة “واستقرت على كل واحد منهم” بحيث ان رأس كل رسول كان يعلوه لسان من نار أي تهبط عليه موهبة خاصة. ومن هذه الزاوية كان عنوان الأطروحة التي قدمها لنيل الدكتوراه الأب نقولا أفاناسييف في باريس “كنيسة الروح القدس” مع علمه بانها كنيسة المسيح. الطرح ان كل واحد منا ينشئه الروح كما يشاء. ولكن في حرية الروح نبقى جسداً واحداً. فهذا موهوب نبوة أي صاحب كلمة يبني فيها الجماعة أو يلومها أو يوبخها. يبنيها بعد هدم ويغرسها بعد اقتلاع. وذاك يوهب خدمة في الكهنوت أو في سواه والآخر في التعليم أو الوعظ والآخر يوهب سخاء العطاء والآخر الاجتهاد في تدبير الأمور والآخر سرور الرحمة (الرسالة الى أهل رومية 12 وشبيهتها الرسالة الأولى الى أهل كورنثوس 12).
فاذا كنا من الروح آتين لا نحسد بعضنا بعضاً بل نعترف بموهبة الآخر وفرادته ونرجو نموها وقوتها لانها نافعة لاكتمال جسد المسيح الذي هو الكنيسة. ونحن لا نتوخى الظهور اذ قد تموت بالاعتداد الموهبة. لقد لفتني منذ فترة يسيرة اننا على اختلاف الدرجات في المسؤولية الكنسية نتناول معا الخبز والكأس. نستمد القوة من المصدر الواحد ولا يعلو احد احدا بسبب من مقام ولكن يعلوه بسبب من قداسة. وقد يكون الاسقف آخر القوم في الجماعة على هذا الصعيد.
وقد احزن بولس فيما كان يرعى رعية كورنثوس ان لمس فيها خصومات داخل الجماعة وتحزبا لاشخاص. “هل انقسم المسيح؟”. تتوزع المواهب ولا تتجافى القلوب. “من يعطيني ان يكون جميع الشعب انبياء”.
فلماذا لا نفرح ان فلانا اوفر منا في هذه العطية او تلك؟ المرة تلو المرة اناقش موضوعاً رعائياً وادرك ان كاهنًا ليس على مقدار من العلم عظيم كان افضل مني حكمة. لماذا لا نقدر ان نلمس ان فلانا او فلانا اعمق منا واذكى وان هذا يعود الى الروح الالهي او الى الطبيعة التي جعلها الله فيه؟ ايضا بت اتحسس ان لا علاقة لك انت بما منّ الله عليك. هذه وديعة هبطت عليك مجانا بفضل من الله وكرمه واثمرت فيك بسبب من طاعة وطاعتك له هي ايضا منه وانت مجرد جسر تعبر عليه المواهب وتنتقل الى من تنتقل او تحيي من تحيي.
لا شيء يؤلم مثل تغاضي الناس عن مواهب الآخرين. انهم بذلك يغضون الطرف عن الروح القدس نفسه ويحرمون انفسهم انفتاحهم على هذا الروح عينه. يلفتك في الكنيسة عندنا ان هذا خادم الهيكل يتعامل والمبخرة والشمعة وذاك مؤمن واقف في صحن الكنيسة مصليا وانت كاهن او اسقف والقداس الالهي يسير باجتماع كل منكم الى الله واجتماع الواحد الى الآخر في تناغم بديع. والذبيحة تقيمها الجماعة متناغمة ولو كان لها إمام يؤمها. ثم تفحص انت تصرف المؤمنين اذا خرجوا من الكنيسة فترى بين الكثيرين منهم توترا وانحزابا هو من هذه الدنيا والانسان في قلبه وليس في ما يقيمه من شعائر. فأية معمودية هذه التي اعتمد بها واية كلمة نزلت عليه. يطرب للحن والحان القلوب متنافرة ناشزة. الكنيسة اذاً لم تجتمع وبدت فقط مجتمعة. وتكون انت قد زرعت وتبدد الزرع ام جف ام اختنق بهموم المجد.
عندك اذاً جماعات سميت باسم المسيح لكنها لم تعرف حقا انه مات من اجلها لأنها لم تمت شهواتها. معموديات باطلة لأنها غير فاعلة. معموديات كانت مجرد اغتسال بماء ولم تكن غسل روح او التهابا بنار.
اذا عيدنا العنصرة اليوم هل يعطينا الله ان ندرك انه ارادنا خلائق جديدة في الكون الجديد الذي دشنه المسيح بالحب ام نبقى ركام طائفة تبني كنيسة ولا تصير كنيسة. يا رب هلا اعطيتنا ان نغني فينا انسان عهدك الجديد؟