تاريخ القضية الأورثوذكسية في فلسطين؟

إعداد: م. إميل الغوري

تاريخ القضية الأرثوذكسية

نضال مُستمر منذ 500 عام

تٌعتبر الرعية العربية الأرثوذكسية في بلاد الشام عامة وفي الأردن وفلسطين خاصة، الأكثر عدداً بين العرب المسيحيين، بل فقد كانت في وقت ما تٌشكل أكثر من 99% من العرب المسيحيين الذين تعود أصولهم إلى الغساسنة والمناذرة والتغالبة في الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق وهم عرب أقحاح.

بالنسبة للأردن وفلسطين، فقد ابتدأت الكنيسة المقدسية على يد الأسقف يعقوب الرسول ابن يوسف النجار الذي استشهد في العام 62م على يد اليهود وخلفه شقيقه سمعان الذي اسُتٌشهد أيضاً على يد اليهود، وتعاقب على رئاسة أسقفية القدس والأراضي المقدسة (التي تحولت لاحقاً إلى بطريركية) العشرات من الأساقفة والبطاركة غالبيتهم الساحقة كانت من العرب أهل البلاد، ونذكر منهم البطريرك إيليا

النجدي الذي رأس الكرسي البطريركي عام 494م والبطريرك صفرونيوس الدمشقي الذي رأس الكرسي البطريركي عام 634م الذي استقبل الخليفة عمر بن الخطاب، والبطريرك يوحنا الذي رأس الكرسي البطريركي عام 705م والذي منع الصلاة في الكنائس بأي لغة غير العربية. هذا بالإضافة إلى كل من البطريرك إيليا الثاني عام 750م والبطريرك الطبيب توما عام 786م والبطريرك المقدسي إيليا عام 868م والبطريرك من قيسارية أغانيوس عام 983م والبطريرك مرقس عام 1174م والبطريرك يواكيم عام 1431م والبطريرك مرقص الثالث عام 1501م وأخيراً البطريرك عطالله الذي رٌسم بطريركاً عربياً عام 1516م وكلهم عرب.

ولا بد لنا من التوقف عند حروب الفرنجة أو ما اصطُلح على تسميته (الحروب الصليبية) والصليب منهم ومن حروبهم براء، إذ كان للفرنجة (الذين يتبعون الكنيسة الكاثوليكية وهي غير الكنيسة الأرثوذكسية) أهدافاً اقتصادية استعمارية ألبسوها لبوساً دينياً، كما كان من الأهداف المعلنة إخضاع الكنيسة الأرثوذكسية المشرقية.

احتل الفرنجة بيت المقدس عام 1099م وقتلوا العرب الأرثوذكس كما قتلوا العرب المسلمين ونًًًصّبوا البطاركة اللاتين على القدس واحتلوا دار البطريركية الأرثوذكسية في القدس وطردوا البطاركة الأرثوذكس إلى القسطنطينية واستولوا على كنيسة القيامة والعديد من الكنائس والأديرة العربية الأرثوذكسية.

فتح صلاح الدين مدينة القدس عام 1187م بعد أن حكمها الفرنجة مدة 88 عاماً ولقي معاونة وتأييداً كبيراً من الأرثوذكس العرب بل إنهم حاربوا في جيش صلاح الدين الأيوبي ومنهم القائد الكبير عيسى العوّام.

إذن، فمما لا شك فيه أنّ الرئاسة الروحية للكنيسة الأرثوذكسية في الأردن وفلسطين ظلت عربية حتى القرن السادس عشر، أما الرعية (أبناء الكنيسة) فهم عربٌ منذ البدء وحتى يومنا الحاضر.

وبإستقالة البطريرك العربي عطالله عام 1534م انتهى عهد البطاركة العرب في البطريركية الأرثوذكسية في الأردن وفلسطين حيث أُنتخب البطريرك الجديد -جرمانوس اليوناني- الذي كان يجيد اللغة العربية التي درسها في مصر إجادة تامة وظل بطريركاً لحوالي 45 عاماً، و قد حصر خلالها الرئاسة الروحية بالعنصر اليوناني بتنصيب يوناني بدل كل أسقف عرب متوفي، وبعد تقدم العمر به، قام برسم البطريرك اليوناني الشاب صفرونيوس عام 1579 خليفة له الذي حاول الرجالات العرب الأرثوذكس الحيلولة دون تنصيبه وباءت محاولاتهم بالفشل. إن المحاولات والاجتماعات عام 1579 يمكن اعتبارها الإرهاصات الأولى للنهضة والقضية الأرثوذكسية.

خلف صفرونيوس اليوناني (وهو غير صفرونيوس العربي) بطريركاً يونانياً آخر هو ثيوفانس عام 1608م، فاحتج الكهنة وأبناء الرعية العرب ولكن السلطان العثماني إبراهيم دعم البطريرك فسجن بعضهم ونفى آخرين، ووضع ثيوفانس قانوناً ظالماً استمراراًً لنهج جرمانوس وصفرونيوس وهو(بأنه لا يسمح لأي من أبناء الكنيسة المقدسية الأرثوذكسية الوطنية بالوصول إلى أية درجة من الدرجات الأكليروسية أو الرهبانية).

وضع البطريرك اليوناني ذوسيثيوس الذي نُصب عام 1669م القانون الأساسي(لأخوية القبر المقدس) الذي يحظر قبول أي عربي أرثوذكسي من فلسطين وشرق الأردن في عضويتها وانتخاب بطريرك أو مطران من غير رجالها). هذا القانون العنصري المجحف ما زال سارياً حتى اليوم مع إستثناءات إسترضائية.

استمر تعاقب البطاركة والمطارنه اليونان حتى نهاية القرن التاسع عشر حين عزل المجمع المقدس البطريرك كيرلس بحجة علاقته بروسيا الأرثوذكسية وتأييده لها واستبدل بالبطريرك بروكوبيوس الثاني عام 1873م.

تأسست (الجمعية الأرثوذكسية الوطنية) وأرسلت وفداً إلى الأستانة عاصمة العثمانيين للاحتجاج على عزل أخوية القبر المقدس للبطريرك وقطعت الجمعية وجماهيرها كل علاقة لها مع أخوية القبر المقدس وسحبت اعترافها بالبطريرك ونسجت علاقات متميزة مع روسيا وظلت تمارس الضغوط على البطريركية ونجحت أخيراً بعزل البطريرك اليوناني بروكوبيوس.

أخذت الأمور منحى المد والجزر لحين صدور (قانون البطريركية الرومية الأورشليمية) عن السلطة العثمانية عام 1875م الذي قابله العرب الأرثوذكس بمزيد من المطالب.

أثمر احتجاج الرعية العربية الأرثوذكسية وجهود الجمعية الأرثوذكسية الوطنية والضغط المتواصل، فأضيفت مادة جديدة على مواد قانون البطريركية وأُلفت (نظارة عليا) برئاسة البطريرك نصفها من الرهبان اليونان والكهنة العرب والنصف الآخر من العلمانيين العرب ومهمتها الإدارة المشتركة. كما نجحت الجمعية بالسماح لأبناء الرعية العرب بدخول سلك الرهبنة في سائر أنحاء فلسطين والأردن و إتاحة الفرصة لهم للوصول لأعلى درجات الكهنوت.

وبعد وفاة البطريرك اياروثيوس -الذي تم في عهده تحقيق بعض المطالب وإضافتها على قانون البطريركية العثماني- نُصب البطريرك نيقوذيموس عام 1782م والذي أنشأ مدرسة مار متري ودكاكين وأبنية متعددة في باب الخليل وفي حي الدباغة في القدس. توفي البطريرك نيقوذيموس الذي أتهم بمحاباة الرعية العربية وبالعلاقات المتميزة مع الروس وقد تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة بإطلاق النار عليه من أحد رجال الدين اليونان عام 1890م. جاء البطريرك اليوناني جراسيموس فأعاد أبناء الرعية العرب مطالبته بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه وما التزم به البطريركان السابقان فأجابهم:

“إن منشور البطريرك اياروثيوس قد دُفن معه”

ثم جاء البطريرك اليوناني ذاميانوس عام 1897م.

عام 1908م، صدر الدستور العثماني/التركي ومن أهم بنوده انتخاب مجالس مليّة في مناطق السلطنة كافة وانتخبت أهم المجالس وأكبرها في مدينة القدس حيث قام المجلس بالتفاوض مع البطريرك اليوناني (دميانوس) وتم التوصل لتحقيق جزء معقول من المطالب الشرعية لأبناء الرعية العرب من أهمها تأليف (مجلس مختلط) مكون من أبناء الرعية الوطنيين ورجال الدين اليونان.

بالرغم من أن التسوية لم تحقق مطالب أبناء الرعية العرب إلا أن (المجمع المقدس) المكون من المطارنة ورجال الدين اليونان انقلب على هذا الاتفاق بل تمادى متهماً البطريرك اليوناني بمحاباة العرب فعزلوه ( وما أشبه اليوم بالأمس حين انقلب المجمع المقدس اليوناني على البطريرك المعزول ايرينيوس قبل ثلاث سنوات).

لم يرضَ أبناء الرعية العرب الوطنيون بالانقلاب وثاروا وشهدت مدن فلسطين كافة مظاهرات رفضت تصرفات المجمع المقدس اليوناني، وألف وفد رفيع المستوى من الشخصيات والزعماء توجه إلى (الأستانة) مطالباً بعدم عزل البطريرك.

استمرت المظاهرات واستولى العرب الأرثوذكس على دار البطريركية المقدسية وامتدت الانتفاضة لجميع المناطق وتمت السيطرة على جميع الأديرة عام 1909م، كما حصلت اشتباكات عنيفة مع القوى الأمنية العثمانية مما أدى إلى استشهاد أربعة شبان عرب أرثوذكسيين مقدسيين يعتبرون شهداء القضية الوطنية الأرثوذكسية، كما تم إبعاد العديد من زعماء الحركة الوطنية الأرثوذكسية إلى بيروت (مركز الولاية) آنذاك.

تم التوصل إلى تشكيل (المجلس المختلط) السالف الذكر نتيجة هذه المقاومة المستمرة والتضحيات، وعقد أول اجتماعاته عام 1910م وأعيد البطريرك داميانوس إلى موقعه رغماً عن (المجمع المقدس) اليوناني واستمر المجلس ثلاثة أعوام وأصدر قرارات لم ينفذ أي منها لتحايل دميانوس نفسه على جميع القرارات.

بعد احتلال بريطانيا لفلسطين والقدس عام 1917م أدرك المجمع المقدس اليوناني إمكانية عزل البطريرك داميانوس مرة أخرى بدعم من الإنجليز. فاتصل بالحكومة اليونانية متهماً البطريرك (بأنه يصبغ البطريركية يصبغة أرثوذكسية عامة ويغيّر من صبغتها اليونانية التي اتصفت بها منذ القدم الأمر الذي يمس حقوق أمتنا التقية القديمة ويعود عليها بالخراب).

المؤتمر العربي الأرثوذكسي الأول – حيفا 1923

في الظروف الصعبة التي كانت سائدة آنذاك والمتمثلة باحتلال بريطانيا لفلسطين والأردن والسيطرة اليونانية على الرئاسة الروحية، قامت سلطة الانتداب بواسطة مندوبها السامي بإصدار (قانون البطريركية الأرثوذكسية لعام 1921) والذي لم يراعي حقوق الرعية العربية فكان محبطاً ومخالفاً لآمالها الوطنية.

عام 1923 تداعت لمدينة حيفا الفلسطينية الوفود الممثلة لمدن وقرى فلسطين والأردن كافة حيث شاركت وفود من القدس، يافا، بيت لحم، الناصرة، رام الله، غزة، عكا وقضاؤها، نابلس، العفولة، عبلين، الرامة، كفر كنا، جنين، عيلبون، الزبابدة، كفر ياسيف، الرملة،عابود، بيت ساحور، بير زيت وجفنا والطيبة وطولكرم وبيسان وكذلك وفود الأردن من الحصن وتوابعها والسلط و توابعها والكرك و توابعها ومأدبا وعُقد (المؤتمر العربي الأرثوذكسي الأول) وانتخب السيد إسكندر كساب رئيساً وتمخض المؤتمر عن تشكيل لجنة تنفيذية عليا والعديد من القررات التي تشمل:-

تشكيل مجلس مختلط ثلثاه من العلمانيين الوطنيين وثلثه من الأكليروس (رجال الدين).

فتح مدرسة أكليريكية وإفساح المجال لأبناء الرعية من الارتقاء إلى أعلى درجات الكهنوت.

فتح مدارس في مناطق الأردن وفلسطين كافة.

المطالبة بانتخاب مجالس ملية محلية في جميع المدن والقرى الأردنية والفلسطينية.

المطالبة بفصل فوري لكل رئيس ديني لا يعرف لغة الشعب.

أن لا تتم سيامة أي شماس أو كاهن دون موافقة المجالس المليّة.

لا يحق للبطريرك تمثيل الملة الأرثوذكسية إلا بموافقة المجلس المختلط.

كما صدر القسم الأرثوذكسي: “إننا نقسم بالله العظيم وبصليب سيدنا يسوع المسيح الكريم وبإنجيله المقدس أن نحافظ بكل قوانا على قرارات المؤتمر الأرثوذكسي العربي الأول كافة التي سجلت وقائعه، وأن لا ننحاز إلى الأعداء المناهضين لهذه النهضة. وإن خالفنا هذا العهد نكون مسؤولين بين يدي الله ونشهده على ذلك”.

لجنة برترام – يونغ

نتيجة لاستمرار الخلافات بين البطريرك اليوناني داميانوس والمجمع المقدس اليوناني ومع استمرار اعتراضات واحتجاجات أبناء الرعية العرب واللجنة التنفيذية المنبثقة عن المؤتمر الأرثوذكسي، شكّل المندوب السامي البريطاني لجنة خاصة لدراسة الموضوع برئاسة كبير القضاة أنطون برترام ومساعده يونج عام 1925. خرجت بنتائج أهمها إن الأرثوذكس ضحية تطور تاريخي بعكس الوضع الممتاز الذي يجب أن يكونوا عليه حيث هم سكان البلاد الأصليين موطن إنطلاقة الدين المسيحي، وتضيف اللجنة بأن أخوية القبر المقدس قد صبغت البطريركية بصبغة يونانية خلال الحكم العثماني الذي امتد 400 عام وهم يعتبرون بطريركية القدس وديعة بين أيدي الأمة اليونانية. ويعتبرون أنفسهم حامية يونانية أمامية دون النظر إلى مسؤولياتهم تجاه الأرثوذكس العرب.

وتوصي اللجنة بضرورة إزالة الآثار السلبية التي أحاطت بالعرب الأرثوذكس وتعديل القوانين بحيث تمنح العرب الأرثوذكس مزيداً من المشاركة في الإدارة، وأن يتمتع العرب بأغلبية الثلثين في (المجلس المختلط) والسماح بإلتحاق الأرثوذكس العرب بأخوية القبر المقدس وإصلاح المحاكم الكنسية وتعديل قوانين إنتخاب البطريرك.

وأخيراً قدمت اللجنة البريطانية مسودة قانون جديد للبطريركية ليحل محل القانون العثماني الساري آنذاك.

بالطبع، رفض اليونان جميع توصيات اللجنة بما فيها القانون وادّعوا أن هناك وضعاً قائماً لا يمكن تغييره إطلاقاً، وأن حكومة فلسطين البريطانية (الانتداب) ليس من حقها فرض أي قانون جديد.

أما العرب الأرثوذكس فقد طالبوا بتنفيذ هذه التوصيات موضع التنفيذ إضافةً لمطالبهم التي تمخض عنها المؤتمر الأرثوذكسي الأول في حيفا. واتخذت الأمور منحىً جديداً بوفاة البطريرك دميانوس عام 1931م ورفض العرب الأرثوذكس انتخاب بطريرك جديد إلا بعد تلبية حقوقهم التي طالبوا فيها مراراً وتكراراً.

المؤتمر العربي الأرثوذكسي الثاني – يافا 1931

ولتثبيت هذه الحقوق والمطالب فقد تم عقد المؤتمر العربي الأرثوذكسي الثاني في يافا عام 1931م بحضور المندوبين الممثلين لمدن وقرى فلسطين والأردن كافة وانتُخبت لجنة تنفيذية برئاسة السيد يعقوب فراج حيث تم التأكيد على جميع الحقوق والمطالب التي صدرت عن المؤتمر الأرثوذكسي العربي الأول إضافةً إلى التوصيات التالية:-

بما أن انتخاب بطريرك عربي في الوقت الحالي (رغم أنه من أعز أماني العرب الأرثوذكس) لا يمكن تحقيقه فعلينا السعي لتحقيق ذلك في المستقبل.

رفع احتجاج شديد اللهجة للمندوب السامي البريطاني لتدخل القنصل اليوناني السافر في شؤون البطريركية والأماكن المقدسة.

مقاطعة الانتخابات للبطريرك وعدم الاعتراف بأي بطريرك يتم انتخابه إلا بعد تحقيق الرعية لكامل حقوقها.

وبذلك توقف انتخاب البطريرك حتى عام 1935م عندما قامت سلطات الانتداب البريطاني بإصدار قانون البطريركية الأرثوذكسية رقم 25/1935، وظل موقف اللجنة التنفيذية على حاله برفض المشاركة في انتخاب البطريرك ومطالبة الكهنة العرب بالالتزام بقرار المقاطعة وعدم مشاركتهم بالانتخابات. قدمت جميعة النهضة العربية الأرثوذكسية في الأردن ممثلة برئيسها الشيخ عودة القسوس مذكرة للأمير عبدالله بن الحسين بالمطالب نفسها.

قامت سلطات الانتداب البريطانية بالتنكر لجميع تعهداتها ووعودها كعادتها وأصدرت قانوناً جديداً حمل رقم 26/1935 مُنعت بموجبه اللجنة التنفيذية من تقديم اعتراضات لدى المحاكم، تم انتخاب البطريرك اليوناني تيموثاوس، وتصاعدت الاحتجاجات والمطالب بعدم الاعتراف بالبطريرك وعدم ذكر اسمه بالصلوات والمطالبة بإغلاق الكنائس.

هادن البطريرك الرعية العربية وشُكلت لجنة مشتركة للوصول إلى حل ودي وثبت أن هدف المباحثات انتزاع الاعتراف دون تقديم أي مقابل. استمرت الاحتجاجات ومقاطعة البطريرك وجميع الاحتفالات الدينية مما استدعى تعليق المندوب السامي انتخاب البطريرك وأُلفت لجنة لبحث المشكلة مكونة من أعضاء من اللجنة التنفيذية من الأردن وفلسطين ورجال دين يونان.

ثبت فشل الاجتماعات الذريع فوجدتها السلطات البريطانية فرصة وأصدرت قانوناً جديداً عام 1941 مغيبة الرعية العربية الأرثوذكسية واعترفت بالبطريرك واستمر العرب الأرثوذكس بالاعتراض والاحتجاج.

المؤتمر العربي الأرثوذكسي الثالث – القدس 1944

تُوجت الاحتجاجات عام 1944 بعقد (المؤتمر الأرثوذكسي العربي الثالث) في القدس، الذي أكد على جميع مطالب الرعية الأرثوذكسية الواردة بالمؤتمرات السابقة ورفض القانون الصادر عن سلطات الاحتلال البريطاني، وانتخبت لجنة تنفيذية جديدة برئاسة السيد عيسى العيسى.

المؤتمر العربي الأرثوذكسي الرابع – القدس 1956

بقي الوضع على ما هو عليه حتى حلول النكبة الكبرى عام 1948م والوحدة بين الأردن وفلسطين عام 1950م. أخذت الأمور تتأرجح بين مد وجزر حتى وفاة البطريرك تيماثاوس حيث عُقد المؤتمر الأرثوذكسي العربي الرابع عام 1956م في القدس، وهو أول مؤتمر يعقد بعد وحدة الضفتين تحت الحكم العربي الهاشمي وبوجود موقف رسمي وشعبي عام متضامن بالكامل مع مطالب العرب الأرثوذكس واعتبار القضية الأرثوذكسية جزءاً لا يتجزأ من القضية العربية الوطنية، فصدرت التوصيات التي تتفق مع جميع التوصيات والقرارات السابقة، وشُكلت لجنة تنفيذية جديدة برئاسة السيد أنطون عطالله فُوضت بالسعي لإصدار تشريع يحل محل التشريعات السابقة العثمانية والبريطانية بحيث تكفل هذه التشريعات تحقيق مطالب الرعية العربية وإقرار حقوقها التاريخية.

نجحت اللجنة التنفيذية بالتعاون مع حكومة السيد سليمان النابلسي بإصدار قانون 1957 بإسم (قانون البطريركية الأرثوذكسية) أُقر من مجلس النواب ثم مجلس الأعيان لكنه سُحب -قبل استكمال المراحل الدستورية- من قبل حكومة سمير الرفاعي واستُبدل بقانون آخر حمل رقم 27/1958.

وللتاريخ، فإن قانون 1957 الذي أُقر من قبل الحكومة التي ترأسها النابلسي قد كان قانوناً متوازناً أعاد الحقوق إلى مستحقيه. ومن يقرأ الأسباب الموجبة التي تقدمت بها الحكومة يجد أن هذه الحكومة قد فهمت الوضع التاريخي وجذور القضية الأرثوذكسية حيث قالت:(تعتبر الحكومة الأردنية أن الوقت قد حان لوضع حد لهذا النزاع الطويل ومنح الطائفة العربية حقوقها الطبيعية العادلة).

تقدم رئيس اللجنة التنفيذية آنذاك بمذكرة طويلة للحكومة الأردنية وضح فيها المحاذير من إقرار هذا القانون (قانون 27/1958) لكن أحداً لم يهتم.

رغم أن قانون 27/1958 لا يلبي طموحات وحقوق الرعية العربية إلا أن رجال الدين اليونان لم يطبقوا هذا القانون بشكل كامل منذ صدوره عام 1958 وحتى اليوم.

أُنتخب البطريرك اليوناني فينيذكتوس الذي اضطر لتنفيذ أجزاء من قانون 27/1958 فشكّل مجلس مختلط أُنتخب عام 1962 كما أانتخبت المجالس المحلية في المدن الأردنية / الفلسطينية عام 1966 وجاء عام 1967 واحتُلت كل فلسطين والقدس فوجد البطريرك الفرصة سانحة لتجميد نشاط المجلس المختلط والمجالس المحلية.

بقي الوضع على ما هو عليه خصوصاً باستمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين -داخل الخط الأخضر وكذلك الضفة الغربية والقدس وغزة – حتى وفاة البطريرك فينيذكتوس عام 1980. دعت أخوية القبر المقدس إلى انتخاب بطريرك جديد فهب رجالات الأرثوذكس العرب في الأردن وفلسطين للتصدي للموضوع ورفضوا إجراء الانتخابات وطالبوا بضرورة تحقيق مطالب أبناء الرعية العرب خصوصاً إيقاف تسرب الأراضي والأوقاف الأرثوذكسية إلى اليهود، والكشف عن الصفقات السرية وإبطالها بعد معرفة العديد من الصفقات التي تمت بالتأجير لمدة (99) عاماً.

رغم هذه المواقف والاعتراضات منحت الحكومة الأردنية العديد من الرهبان اليونان الجنسية الأردنية ليتمانتخاب البطريرك رغم أنف الرعية العرب وأصبح (ذيوذوروس) بطريركاً للكنيسة المقدسية الأرثوذكسية، الذي كان قد قدّم تعهدات ووعود كثيرة للرعية الأرثوذكسية العربية أهمها عدم بيع أو تأجير أي شبر من أملاك البطريركية إضافةً إلى تسهيل انخراط الأرثوذكس العرب في سلك الرهبنة وأخوية القبر المقدس وإِشراك الرعية الأرثوذكسية في اتخاذ القرارات.

تشكلت لجنة مشتركة للبحث في تنفيذ هذه الالتزامات لكن دون جدوى حيث استمر التعنت اليوناني وتسرب الأراضي وبقي الحال على ما هو عليه رغم اعتراض الرعية العربية ومحاولاتهم العديدة لمنع تسرب الأراضي.

توالت المعلومات عن بيوعات وتأجيرات طويلة الأمد للعدو الصهيوني، منها الإستيلاء على دير مار يوحنا وإقامة إسكانات يهودية على الأراضي الأرثوذكسية بيافا إضافةً إلى تسريب مئات الدونمات من أراضي مار إلياس قرب القدس لوزارة الإسكان اليهودية وقضايا عديدة أخر مماثلة.

المؤتمر العربي الأرثوذكسي الخامس – عمان 1992

واصلت الرعية الطلب من البطريرك ضرورة عقد المجلس المختلط لكن ذلك لم يتحقق مما استدعى قيام لجنة المبادرة العربية الأرثوذكسية – القدس بالدعوة لعقد (المؤتمر الأرثوذكسي العام الخامس) في عمان عام 1992.

عُقد المؤتمر بحضور الممثلين والمندوبين من جميع المدن والقرى الأردنية والفلسطينية بشقيها (داخل الخط الأخضر وفي القدس والضفة وغزة) واتخذ المؤتمر شعاراً له هو (من أجل نهضة أرثوذكسية شاملة).

شُكل مجلس مركزي أرثوذكسي في الأردن وفلسطين اعتُبر ممثلاً شرعياً لأبناء الرعية العرب الأرثوذكس في مواقع البطريركية كافة، إضافة لتشكيل لجنة تنفيذية عليا برئاسة الدكتور رؤوف أبو جابر.

أعاد المؤتمر الأرثوذكسي الخامس التذكير بالمطالب والحقوق المسلوبة كافة ومن أهمها عدم التفريط بحقوق البطريركية أو تأجير ممتلكاتها إضافةً لضرورة التحسين المستمر للكنائس والمدارس والمحاكم مع السماح لأبناء الرعية العرب بدخول سلك الرهبنة والتأكيد على الوحدة الوطنية المسيحية والإسلامية.

استمرت الضغوط الشعبية والمحاولات الأرثوذكسية العربية لكنها لم تحقق النجاح المطلوب، إذ عمد البطريرك إلى المهادنة حيناً والمجابهة حيناً آخر، واستغل التناقضات بين الحكومة الأردنية ومنظمة التحرير الفلسطينية (السلطة لاحقاً) و أخذ يعمل على نسج علاقات مشبوهة مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

ازدادت الأمور سوءاً على خلفية استمرار تسرب وبيع الأراضي لليهود والإهمال المستمر للأمور الكنسية والروحية كافة مما أدى عدم إحداث نهضة روحية أرثوذكسية.

عام 1999 توفي البطريرك (ذيوذوروس) وتم انتخاب بطريرك يوناني آخر هو (إيرينيوس) بعد حملة انتخابية هابطة بينه وبين المرشح الآخر ثيموثاوس مما أدى إلى حدوث شرخ كبير داخل أخوية القبر المقدس اليونانية.

رغم وعد البطريرك المنتخب إيرينيوس الرعية العربية بالتغيير وإجراء الإصلاحات وتلبية العديد من المطالب، إلا أنه اتعد عن الرعية كأسلافه جميعاً وتفرغ للمهاترات الداخلية وتصفية الحسابات الانتخابية بين رجال الدين اليونان أنفسهم وبعض العرب المرتبطين بهذا المرشح أو ذاك.

نشرت جريدة معاريف (الإسرائيلية) أنباءً لصفقات باب الخليل في القدس بخصوص بيوعات / تأجير 99 عاماً لأماكن مهمة هي فندق السان جون / سوق الدباغة وفندق أمبريال/ساحة عمر بن الخطاب وفندق بترا.

ثار أبناء الرعية العرب عند ذيوع أنباء التأجير وشهدت الأردن وفلسطين اعتصامات وعقدت مهرجانات. بدأت خيوط القضية تتضح بعد تشكيل لجنة تحقيق قانونية منبثقة عن السلطة الوطنية الفلسطينية إستمرت شهوراً توصلت بعدها لاستنتاجات كثيرة أهمها أن البيوعات/التأجير تمت بواسطة رجل يوناني متزوج يهودية اسمه بابديموس –لديه وكالة من البطريرك- قام بعقد عملية البيع/التأجير وقبض العربون. امتدت الاحتجاجات ورُفعت مطالب للبطريرك بضرورة إلغاء الصفقات. و بسبب الضغط الشعبي و الحكومي وضعف البطريرك اضطر المجمع المقدس وأخوية القبر المقدس (ضمن الخلافات السابقة) التضحية بالبطريرك وتنحيته و ساد اعتقاد بأن الرعية خلعت البطريرك وبهذا حققت انتصاراً لا بد لها من جني ثماره وتحقيق المطالب الشعبية.

أكد البطريرك الجديد ثيوفولوس والمجمع المقدس اليوناني مراراً وتكراراً بأن عزل وتنحية إيرينيوس لم يتم بسبب صفقة باب الخليل في القدس وأكدوا أن البطريرك والمجمع يعاملان الجميع بتساوٍ بغض النظر عن العرق أو اللغة أو الجنس. إذاً لا مانع من البيع أو التأجير لليهود.

استمرت الضغوط الشعبية مما دعا الحكومة الأردنية والسلطة الفلسطينية إلى إلزام المرشحين الجدد للموقع البطريركي خاصةً الفائز منهم بالعديد من التعهدات والالتزامات.

وقع المرشحون الالتزامات كافة للحكومتين الأردنية والفلسطينية ومن أهمها قيام المرشح الفائز (البطريرك لاحقاً) بكل الإجراءات القانونية لإلغاء صفقات باب الخليل وتنفيذ القانون الأردني رقم 27/1958 والتعهد بدعوة المجلس المختلط للإنعقاد خلال شهر واحد من تاريخ انتخابه والقيام بجرد ومسح هندسي لأملاك البطريركية كافة وعدم منح وكالات إلا بموافقة المجلس المختلط الذي يضم ممثلين عن أبناء الرعية العرب.

انتخب المجمع المقدس اليوناني بالإجماع البطريرك ثيوفولوس عام 2005، وبدأ أبناء الرعية والمؤسسات الأرثوذكسية كافة مطالبته بتنفيذ تعهداته المعلنة والموقعة.

نكث البطريرك كالمعتاد بعهوده كافة و لم يقم بأي إجراء قانوني لاستعادة عقارات باب الخليل في القدس، أو دعوة المجلس المختلط بإبداء حججاً واهية وأدلى بفتوات قانونية –غير ذات صلة- رابطاً عدم وفائه بعهوده بعدم حصوله على الاعتراف الإسرائيلي. حيث اتخذت الحكومة الصهيونية موقف الابتزاز المزدوج للبطريرك المعزول والبطريرك المنتخب وتأخرت بمنح الاعتراف لحين حصولها على مقابل.

تنادى ممثلو الرعية الأرثوذكسية العربية في الأردن وفلسطين وداخل الخط الأخضر بتاريخ 2/5/2007 لعقد اجتماع جامع في عمان شارك فيه رجال الدين العرب “المطران عطالله حنا والأرشمندريت خريستوفوروس عطالله والأرشمندريت ميليتيوس بصل” والعشرات من المؤسسات الأرثوذكسية ذات التمثيل الكبير والوجود القعلي على الأرض وأكد المجتمعون على المطالب التاريخية للحركة الأرثوذكسية –المطالب نفسها منذ مئات السنين- كما طالبوا الحكومتين الأردنية والفلسطينية بسحب اعترافهما بالبطريرك وعدم التعامل معه وعدم منح أي بطريرك قادم الثقة إلا بعد تنفيذ المطالب والتعهدات كافة، فاستجابت الحكومة الأردنية وسحبت الاعتراف بالبطريرك ثيوفولوس حتى ينفذ كل ما تعهد والتزم به.

الضغوط اليونانية والأمريكية المتواصلة وسياسة التفرقة التي إتبعها البطريرك ومحاولته وبعض معاونيه إظهار الرعية بأنها منقسمة، استدعت إعادة اعتراف الحكومة الأردنية بالبطريرك اليوناني ثيوفولوس.

بعد سنتين من انتخابه حصل البطريرك ثيوفولوس على اعتراف العدو الصهيوني وُسربت محاضر اجتماعاته مع اللجان الوزارية الإسرائيلية وفيها تصريحات خطيرة منها الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس والبطريركية وتعهده بتنفيذ الصفقات العالقة لصالح المستوطنين اليهود وقول محاميه إن الإسرائيليين هم الأسياد، كما وُضحت العديد من الحقائق وتوالت معلومات بتسريب أراضي داخل فلسطين مثل قضية الشماعة والتنازل عن أملاك البطريركية في أمريكا الشمالية.

مما يؤسف له حالياً أن البطريرك (وبسبب حسن نية بعض أبناء الرعية ولأسباب أخرى وأجندات خارجية وداخلية) قد إجتذب مجموعة من المؤيدين، الذين يحاولون دون جدوى الدفاع عنه مع إصرارهم على محاولة تفريغ القضية الأرثوذكسية من مضمونها الوطني النهضوي والتعامل معها وكأنها قضية أبناء الرعية العربية الأرثوذكسية فقط مع العلم بأن هذه القضية تخص أبناء الأمة جميعاً فيما يتعلق بالمحافظة على الأملاك والأوقاف العربية الأرثوذكسية ووقف تهويدها وتسريبها إلى الجماعات الإستيطانية الصهيونية.

الجمعية الأرثوذكسية والمجلس المركزي الأرثوذكسي في الأردن وفلسطين وجميع المؤسسات والفعاليات الأرثوذكسية الرسمية والشعبية ما زالت محافظة على مواقفها ومطالبها وحقوقها، ولن تتنازل قيد أنملة عن الحقوق التاريخية التي ناضل وجاهد الآباء والأجداد في سبيلها منذ عام 1534م -عند استيلاء جرمانوس على هذه البطريركية الوطنية المشرقية – لا يمكن التنازل عنها وهي غير قابلة للتفاوض.

ُعقد أخيراً في عمان بتاريخ 28/1/2008 مؤتمر موسع جامع حضره ما يزيد عن 200 شخصية أرثوذكسية من الأردن وفلسطين وداخل الخط الأخضر ممثلين للجمعيات العاملة،الأندية، الاتحادات ولجان المناطق من محافظات المملكة كافة، وقد أكد الحاضرون على الثوابت والمطالب وأن الأوقاف الأرثوذكسية ملك للأمة لا تباع وهي خط أحمر، كما أكدوا على عمق العيش المشترك المسيحي الإسلامي وطالبو بالنهضة الأرثوذكسية وضرورة دعوة البطريرك للمجلس المختلط للانعقاد الفوري كما طالبوه بتنفيذ تعهداته كافة.

خلاصات واستنتاجات وتوصيات

بعد استعراض ودراسة هذا الملخص والتسلسل التاريخي للكنيسة الأرثوذكسية وواقعها الحالي وبعد تتبع الانتفاضات النهضوية العربية الأرثوذكسية طوال 500 عام، لا بد لنا من استخلاص نتائج وحقائق ودلالات أهمها:

مفهوم الكنيسة بحسب العقيدة الأرثوذكسية هو مجموع المؤمنين من رعية وإكليروس (رجال دين) مما يعني أن هذه الكنيسة ذات صبغة تماثل الغالبية العظمى من مكوناتها وهم العرب الأرثوذكس الذين يمثلون أكثر من 99%. لذا فإن الحديث عن تعريب الكنيسة في غير محله، لأن الكنيسة المقدسية عربية أساساً.

وبما أن الدين المسيحي دين جامع وأممي للإنسانية جمعاء فإن الكنيسة المقدسية الأرثوذكسية مفتوحة بشكل كامل لأي قوميات أخرى مثل اليونان والروس وغيرهم. والأرثوذكس العرب لم يكونوا أبداً عنصريين فقد رحبوا بجميع القوميات وقبلوهم بشكل كامل إلا أن الآخرين هم الذين تعاملوا مع العرب بعنصرية وما زالوا يمارسون العنصرية ويتعالون في تعاملهم إلى يومنا هذا.

إن الحديث عن هوية الكنيسة يطال الرئاسة الروحية لا الرعية العربية ويبين التاريخ الأرثوذكسي أن الرئاسة الروحية للكنيسة الأرثوذكسية المقدسية كانت عربية منذ العصور الأولى للمسيحية وحتى القرن السادس عشر عندما نُصب اليوناني جرماونس بطريركاً وعمل على صبغ الرئاسة الروحية بالصبغة اليونانية واستمر الوضع من يومها وحتى يومنا الحاضر.

أبناء الرعية العرب الأرثوذكس لم يتوقفوا عن النضال والمقاومة ومحاولات النهضة منذ استيلاء جرمانوس على الرئاسة وحتى وقتنا الحاضر. فقد انتفضوا عدة مرات وتواصلت احتجاجاتهم الشعبية طيلة الخمسة قرون الماضية وقدموا الشهداء على مذبح قضيتهم العادلة، ولم يهن أبناء الرعية ولم يستكينوا بل استمر بالنضال والكفاح جيلاً بعد جيل وهم على استعداد لمواصلة الكفاح والجهاد.

طيلة القرون الخمسة الماضية تشكلت قيادات شرعية عربية أرثوذكسية قادت الشعب وحاولت الحصول على الحقوق أو بعضها، وعززت القيادات وجودها بمؤتمرات أرثوذكسية جامعة مع وجود القلة القليلة المرتبطة بالرئاسة الروحية اليونانية لأسباب عدة ظلت معزولة وغير مؤثرة لأنها رفضت شعبياً لارتباطاتها المشبوهة.

استخدمت القيادات الأرثوذكسية على مر التاريخ جميع الإمكانيات المتاحة سواء كانت دبلوماسية، سياسية، انتفاضات شعبية أم مقاومة مدنية بالمجابهة حيناً والتفاوض أحياناً أُخر فشهدت الحركة الأرثوذكسية بعض النجاحات المحدودة، ولم تتحقق الإنجازات الكبرى المطلوبة لأسباب مختلفة مرتبطة بالسياقات التاريخية والسلطات السياسية الحاكمة على مر العصور المتعاقبة.

خلال ألـ 500 سنة المنصرمة شهدنا تحالفات معلنة وسرية بين السلطات المختلفة التي أدارت فلسطين والأردن وبين الرئاسة الروحية اليونانية حيث كان التحالف دائماً ضد مصالح وحقوق أبناء الرعية العرب وقمع انتفاضاتهم المتكررة.

يتضح ذلك جلياً خلال الحكم العثماني (الإسلامي) والحكم البريطاني (المسيحي) والاحتلال الصهيوني (اليهودي). بينما خلال سيادة السلطة السياسية العربية كان أبناء الرعية العرب أقرب ما يكونون لتحقيق آمالهم والحصول على مطالبهم وحكومة سليمان النابلسي عام 1957م أبلغ دليل على ما نقول.

لذا فإن حل القضية الأرثوذكسية وتحقيق أماني ومطالب أبناء الرعية لن يتحقق بشكل كامل إلا بتحقق السيادة العربية على فلسطين والقدس. فالارتباط أساسي بين القضية الأرثوذكسية والقضية الوطنية العربية لأن القضية الأرثوذكسية قضية وطنية بامتياز.

إن المتتبع للانتفاضات المتكررة والمؤتمرات الأرثوذكسية المتتابعة وتوصياتها يجد أن المطالب والحقوق نفسها لم تتغير منذ 500 عام وتشمل: الحفاظ على الأوقاف الأرثوذكسية ورفض بيعها أو تأجيرها باعتبارها ميراثاً عربياً أرثوذكسياً وخطاً أحمر لا يحق لأي كان تجاوزه، والمطالبة المستمرة بالنهضة الروحية الأرثوذكسية والسماح بدخول العرب سلك الرهبنة والمشاركة في الإدارة عبر المجلس المختلط للحد من الفساد.

المطالب التي بدأت في القرن السادس عشر هي نفسها التي ذكرت في المؤتمر الأرثوذكسي الخامس عام 1993 في عمان وهي نفسها قرارات مؤتمر عمان في أيار 2007 والمؤتمر الموسع في كانون الثاني 2008 المنعقد في عمان وهي الحد الأدنى الذي يقبل به الأرثوذكس العرب وهي مطالب جماعية غير قابلة للتصرف ولا يحق لأي كان التنازل عنها أو عن أي جزء منها فهي حقوق تاريخية لا تزول بالتقادم أو لأي سبب آخر و هي قائمة إلى أبد الآبدين.

عدم تحقيق المطالب وإحقاق الحقوق رغم النضال الطويل للرعية العربية لا يعني بأي حال التخلي عنها أو الاستكانة للأمر الواقع وقبول الذل والمهانة والخضوع للعنصرية. فقد رفض أبناء الرعية العرب الأرثوذكس المهانة والظلم طوال 500 عام وسيستمرون بالنضال ورفض التسويات المذلة رغم أن الأوضاع الآنية قد تبدو غير مواتية لتحقيق الإنجازات الكاملة.

إن مواصلة النضال واستمرار الصراع ورفض الاستكانة يُبقي الباب مفتوحاً للأجيال القادمة لتحقيق جميع هذه المطالب وإقرار الحقوق الطبيعية فإن توقف النضال فستمعن الرئاسة الروحية في تماديها وفي تصرفاتها المشبوهة روحياً ووطنياً، لذا فالنضال مستمر على الأقل لضبط الأوضاع الآنية وفتح نوافذ الأمل للمستقبل.

كما أن تحقيق المطالب العربية الأرثوذكسية مرتبط بشكل عضوي وجوهري بقضايا الأمة العربية الكبرى فالقضية الأرثوذكسية الوطنية لن تحل نهائياً إلا بحل القضية العربية.

العرب المسيحيون والمسلمون أبناء أمة واحدة وأبناء وطن واحد، وقد ثبت ذلك بموقف المسلمين العرب خلال الأحداث المهمة الخاصة بالقضية الأرثوذكسية طوال 500 عام، فبدءاً من الجمعيات الإسلامية المسيحية في القرن العشرين في فلسطين، ثم المؤتمر الإسلامي العام لبيت المقدس ومواقف جلالة الملك عبدالله الأول ابن الحسين المعظم وسماحة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني والرئيس الشهيد ياسر عرفات إضافةً إلى المواقف الحالية لجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، والمؤتمر القومي العربي والمؤتمر العربي الإسلامي والقوى والأحزاب الأردنية كافة ومؤسسات المجتمع المدني، والقوى والفصائل الوطنية والإسلامية الفلسطينية.

فإن هذه المواقف تؤيد بشكل كامل ومطلق جميع المطالب العربية الأرثوذكسية وتعتبر القضية الأرثوذكسية جزءاً من القضية الوطنية.

لذا فإن جميع أبناء الأمة وقواها الحية وحكوماتنا الوطنية مدعوة لتقديم كافة أشكال الدعم كافة كذلك المساندة والمشاركة حيثما يلزم لتحقيق بعض التوازن ضمن معادلة التوازن المختلة لصالح الرئاسة الروحية اليونانية المعتمدة على الدعم الصهيوني والأمريكي المباشر.

تأخرت العدالة مئات السنين رغم وضوح القضية الأرثوذكسية وعدالتها، ولكن إرادة الشعوب الحية وإصرارها على نيل حقوقها ومنطق التاريخ ينبئنا بأنه لا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر.

يقول السيد المسيح “من له أذنان للسمع فليسمع”

المراجع :

خلاصة تاريخ كنيسة أورشليم الأرثوذكسية، تأليف شحادة خوري ونقولا خوري.

طائفة الروم الأرثوذكس عبر التاريخ، تأليف حنا عيسى ملك.

فلسطين عبر ستين عاماً، تأليف إميل الغوري.

لمحة تاريخية في أخوية القبر المقدس اليونانية، تأليف الأسقف رفائيل هواويني

نبذة عن تاريخ القضية الأرثوذكسية في الأردن وفلسطين بين عام 1925 – 1992 “د.رؤوف أبو جابر”

تقرير لجنة برترام – يونغ البريطانية.

مقررات المؤتمرات الأرثوذكسية و وثائق مختلفة مثبتة