لم تشعر بالخوف مني، ولم تٌبدِ رأيا فيّ

كاتبة الحكمة يارا الحوراني

(يقال أنه في قديم الزمان، كان ناسك عُرف فيما بعد باسم القديس سافان (سافين)، يحيا في أحد كهوف منطقة اسمها بسكوس، ولم تكن بسكوس حينذاك سوى مركز حدودي

يسكنها قطاع طرق فارّون ومهربون وبائعات هوى ومغامرون يأتون للبحث عن شركاء، ومجرمون يلوذون بها بين جريمة واخرى، والأدهى من ذلك كله أن اسيويا يدعى آهاب، كان مسيطرا على القرية وضواحيها، ويجبي ضرائب باهضة من المزارعين الذين يصرون على العيش بكرامة. ذات يوم، نزل سافان من كهفه، ووصل إلى منزل آهاب وطلب أن يبيت ليلة

عنده، انفجر آهاب ضاحكا: “ألا تدري أنني قاتل، وأنه سبق لي أن ذبحت العديد من الناس في بلادي،وأن حياتك ليس لها أي قيمة عندي؟” أجاب سافان: “أعرف ذلك ولكنني سئمت الحياة في ذلك الكهف، وأود أن أقضي ليلة واحدة هنا، على الأقل”. كان آهاب عالما بصيت القديس، الذي لا يقل شأنا عن صيته هو بالذات، وهذا أمر أزعجه جدا، لأنه يمقت أن يرى المجد موزعا بينه وبين شخص على هذا القدر من الهشاشة، لذلك قرر أن يقتله في ذلك المساء لكي يُظهر للجميع أنه سيد الناحية المطلق الوحيد. تبادلا بعض العبارت ولم يترك آهاب نفسه تتأثر بكلمات القديس، ولكنه رجل مرتاب، وهو لا يؤمن منذ زمن طويل بالخير. دلَّ سافان على حيث ينام، وبهدوء، ولكن بسحنة متوعدة، راح يشحذ خنجره، وبعدما راقبه سافان، للحظات قليلة، أغلق عينيه ونام.

قضى آهاب ليله وهو يشحذ خنجره، وعندما استيقظ سافان، مع اطلالة الصباح، وجد بأنه يبكي بكاءا مرا: “لم تشعر بالخوف مني، ولم تٌبدِ رأيا فيّ، إنها المرة الأولى التي يقضي فيها شخص ليلته عندي مطمئنا إلى أني أستطيع أن أكون رجلا صالحا، خليقا بتقديم واجبات الضيافة لجميع من هم بحاجة إليها. ولأنك حسبت أني قادر على التحلي ببعض الإستقامة، فقد تصرفت على هذا الأساس”. فهجر آهاب، من فوره، حياة الإجرام وسعى إلى إحداث تغييرات في المنطقة، وهكذا لم تعد بسكوس مركزا حدوديا يعيث به اللصوص فسادا، بل غدت مركزا تجاريا مهما بين بلدين).

“لم تشعر بالخوف مني، ولم تٌبدِ رأيا فيّ”، قد يكون أكبر عائق لإقامة علاقات سليمة اليوم، هو أننا نُبدي رأيا مسبقا وحُكما على الآخرين من خلال كلمة سمعناها أو موقف رأيناه، مما يجعلنا نضع حدودا لعلاقاتنا مع الآخر مما يُكون عنده ردة فعل قد تكون عنيفة لهذا الفعل الذي أبديناه بالبداية سواء بقصد او بدون قصد، وعلى الأغلب لا يكون بقصد منا أن نجرح الآخر أو نظهر له خوفنا وحذرنا منه ولكن هذا ما يحدث على كل الأحوال، من خلال نظرة او كلمة او فعل لا إرادي يصدر منا، وعندها يضطر الآخر، كرد فعل منه، على أن يُجيب على هذا الحذر بحذر أكبر وقد نحرك في داخله من أخافنا منه ويظهر عالسطح، ولكننا إذا ألقينا وراء ظهرنا كل هذه الآحكام المسبقة وبدأنا معه بداية جديدة وفتحنا صفحة بيضاء نقية، سيُحيي ذلك في داخله المشاعر والأفكار الإيجابية ويُبادلنا بالمثل، فكم هي القصص والحقائق كثيرة على هذا.

علينا أن نؤمن أن في كل واحد فينا بذرة صالحة، أن صورة الله مهما تشوهت بالخطايا والقسوة، تبقى حية ولكنها مدفونة في العمق وبحاجة لمن يُخرجها ويزيل عنها الشوائب لتظهر على السطح، فمهما تملّك الشر من قلب الإنسان لن يستطيع أن يُميت صورة الله، البذرة الصالحة، التي هي بحاجة لمن يُنميها، وقد لا يكون ذنب هذا المجرم أو السيء الأخلاق أنه أصبح على هذا النحو، فقد يكون السبب أنه لم يقابل الشخص الذي يؤمن به ويؤمن بأنه يستطيع أن يكون صالحا وخيّرا، وأبدا لا يفوت الوقت للإصلاح، وقد يكون أي واحد منا هو سبب هذا الإصلاح، نحن لسنا بحاجة لقوى خارقة للطبيعة لعمل معجزة كمعجزة القديس سافان مع المجرم آهاب، فقط نحتاج قليل من اللطف والمحبة والإيمان، محبة الشخص الذي خُلق على صورة الله بالرغم من المظهر القاسي، إيمان بأنها ما تزال حية في داخله ولكنها تحتاج لقليل من المشاعر الدافئة، وبقليل من اللطف قد تظهر ويشعر بها هذا الشخص وتحوله تماما لعكس ما هو عليه.

فدعونا لا ندين ونحكم على الآخرين، لأنه كما ندين نُدان، ودعونا نتقبلهم بالرغم مما سمعنا أو رأينا منهم، فقد نكون نحن من فهم الموقف خطأ، لنقبلهم أولا ثم نسمع منهم وننظر إليهم بعيون الرب وبعدها نصدر حكمنا، والأهم دعونا لا نكون قضاة قاسيين على أنفسنا وعلى الآخرين ولنترك القضاء والحكم في يد صاحب العدل والرحمة الكاملين، وهناك حكمة أحبها كثيرا وأرددها دائما “لا تصدق كل ما تسمع ونصف ما ترى” لأنه حتى أعيينا قد تخدعنا أحيانا، فلنتأكد ونُحب ونفتح قلوبنا وأذرنا للآخر ونقبله كما هو بعيوبه وحسناته ونترك الله يعمل معه ومعنا وقد يتحول فعلا لعكس ما هو الآن بتقبلنا ومحبتنا.

وعندها قد نسمعه يقول “شكرا لأنك آمنت بي”

يارا الحوراني

القصة القصيرة مقتبسة من رواية: الشيطان والآنسة بريم”

8/11/2009

المرجع