القديس غريغوريوس النزينزي

كان أبي رجلاً نبيلاً بكل المقاييس، رجلاً كبير السن، بسيطاً في الإسلوب، مثالاً يُحتذى به، حقاً بطريركاً ثانياً كإبراهيم. لم يكن فقط يبدو نبيلاً مثل أغلبية الناس في الوقت الحاضر، بل كان بالحقيقة كذلك. بالفعل، ضلَّ في يوم من الأيام، إلا أنه صار صديقاً للمسيح بعد ذلك، ثم فيما بعد قساً، بل أفضل جميع القساوسة. أما أمي نونا لكي أصفها بإختصار، كانت الشريكة الملائمة لرجل من هذه النوعية، وفضائلها مشابهة. من سلالة تقية، إلا أنها كانت فاقت الجميع في التقوى. سيدة بالجسد نعم، إلا أنها كانت تفوق أي رجل بشخصيتها. كانت حياة كلا الوالدين على حد سواء نموذجاً يُحتذى به. هل يمكنني إظهار ذلك مقدماً دلائل؟ كشاهد على الإدعاء، سوف أقدم أمي نفسها، فم الحقيقة ذاتها. كانت بعيدة كل البعد عن الإفتخار بأمور خاصة للمجد الباطل، بل كان الأقرب إليها إخفاء أمر شائع من أن تفعل ذلك. كانت مخافة الله دليلها، فالمخافة مُعلّم صالح.
كانت متلهفة لرؤية طفل ذكر في بيتها، هذه حقاً أمنية شائعة عند العديد من الناس. إتجهت إلى الله وصلَّت من أجل تتميم أمنيتها، إذ أنها عندما كانت تُثبِّت ذهنها على شيء لم يكن بسهولة إعاقتها. الله منحها الجميل، إذ كانت بالفعل تتوقع الإستجابة لإمنيتها الرائعة بدون التوقف عن الصلاة المملوءة بالحب. أتى إلها تذوق سابق جليل، رؤية تحتوي على ظل طلبها. ظهر إليها بكل وضوح شبهي واسمي في حُلم بالليل. ثم ولدتُ لهما، عطية من اللالعاطي، عطية جديرة بالصلاة، وإن لم يكن فهذا بسبب عيوبي
الخاصة.

فجئت إلى هذه الحياة وتشكَّلت، كفقير بائس، مصنوع من طين وعناصر مركبة، تلك العناصر التي تتحكم فينا أو التي نتحكم فيها بصعوبة. إلا أنني آخذ هذه الولادة ذاتها كوعد وعربون لكل ما هو أجمَّل، فالجحود خطية. حالما ظهرت وأكتملت هيئتي، حالاً صرتُ لآخر (للرب) بأكثر العقود نُبلاً. مثل حمل أو عجل مرضي، بل ضحية من نوعية سامية عاقلة تم تقديمي لله (أتردد في قولي هذا) مثل صموئيل الصغير. لكنني أحترم بشكل رئيسي مشاعر أولئك الذين قدموني للرب. لأنه من أيام الطفولة الأولى، تم تربيتي بكل فضيلة، إذ كنت حائزاً في بيتي على أفضل مثال.
 
بينما كنت أتقدم في العمر، قليلاً قليلاً، مثل سحابة خارجة من سحابة، كانت تقودني الرغبة في الأمور الفضلى. وبينما كان العقل يتطور كنت أتشكل إلى الأمام. وبين الكتب، كنت أتمتع بتلك التي تقود إلى الله. وبين الناس، كنت أرتبط بأولئك الذين يتحلون بشخصية ممتازة.
 
عندما بدأ الشعر بالنمو على خدودي، تملكني الولع والشغف بالأداب. علاوة على ذلك، أردت إستخدام الأحرف النغلة في خدمة الكلمات الأصيلة. إذ لم يعجبني تفاخر الناس – الذين لم يتعلموا شيء قيِّم على الإطلاق بل مجرد أمور عقيمة ومهارة لسان فارغة تتضمن صوتاً جهورياً صاخباً – بأنفسهم، ولم أرغب في التقيُّد بتعقيدات السفسطة. إذ لم أرد السماح أبداً لأي شيء آخر أن يأخذ الأسبقية فوق دراساتي المسيحية.
 
إلا أن النزعة الشبابية المألوفة قد أختبرتها، الإستعداد للتأرجح بالنزوات الفوضوية، تماماً مثل المهر النشيط الذي يندفع بتهور نحو السباق. كنت قد أستلمت بعض الرسائل وأنا في مدينة الإسكندرية، واللحظة التي أخترت فيها الرحيل كانت تماماً خارج موسم الإبحار، قبل أن يستقر البحر ويهدئ. يؤكد الناس المهرة في مثل هذه الأمور على حدوث عاصفة خطرة تدعى ذيل الثور في هذا الوقت، فيعتبر الإبحار في هذه الأوقات تهوراً وليس تصرفاً عاقلاً. إلا أنني ركبت السفينة متجهاً إلى اليونان مباشرة، وإذا بعاصفة شديدة تضرب السفينة، حتى صار كل شيء في سواد عظيم: الأرض، البحر، الهواء، السماء، كل شيء أظلم. الرعود دوَّت وسط ومضات البرق، الأصطح أرتجفت عند فشل الأشرعة. الصاري الرئيسي أنحنى، ولم يعد للدفة أي تأثير عندما شقتها العواصف قسرياً من أيدي ماسكها. الأمواج العاتية غمرت السفينة. صخب وإضطراب إنتاب الجميع، صرخات البحارة، القادة، الضباط، المسافرون، الجميع يصرخون بصوت واحد للمسيح، حتى أولئك الناس الذين لم يسبق لهم معرفة الله.
 
كان الخوف هو المُعلم المناسب. إلا أن أكثر الأمور التي كان يرثى لها في كل نكبتنا هذه، هو أن السفينة كانت بدون ماء. إذ أن اللحظة التي بدأت فيها بالترنح تحطم الصهريج الذي كان يحمل كنز الماء الثمين وتبعثر في الأعماق. كان السؤال وقتئذ، أي شيء سوف يقضي علينا أولاً، هل هو العطش أم البحر أم الرياح؟ لكن الله أرسل إلينا نجاة سريعة من كل هذا. فقد ظهر فجأة تجار فينيقيون، كانوا خائفين أنفسهم، لكن بعد أن علموا فظاعة محنتنا شددوا مركبتنا بإستخدام خطافات مثبتة، ومقدرة شديدة، إذ كانوا أقوياء جداً. لقد أنقذونا بالفعل من تحطم فعلي للسفينة، كنّا مثل سمكة تُنتزع من الماء، أو مصباح يخفق بعد فقدانه كل الزيت.
 
إلا أن البحر إستمر في هياجه، فأنهكنا لعدّة أيام، ونحن نُحمَّل في مختلف الإتجاهات، دون أن يكون عندنا أي فكرة إلى أين نبحر، ولم نعد نرى أي أمل في السلامة من الله. كنَّا نخاف جميعنا من موت مشترك، لكن الشيء الأكثر فزعاً بالنسبة لي كان الموت المخفي، فتلك المياة القاتلة كانت تبعدني عن مياة المعمودية المُطهرة التي تؤلهنا.
 
هذا كان رثائي ومصيبتي. لأجل هذا كنت أصرخ بإستمرار باسطاً يدي عالياً، حتى أن صرخاتي كانت تتغلب على عصف الأمواج. وبشكل بائس ومنكفئ أنطرحت أمامه بثياب ممزقة. والجميع – هذا يبدو غير قابل للتصديق لكنه حقيقي – نسوا مشاكلهم الخاصة وضموا إلتماسهم وصلاتهم لصلاتي. والطريقة التي إشتركوا بها معي في آلامي، تظهر تقوى هؤلاء الرفقاء، المسافرين معي في بحر الويلات المشترك.
 
إلا أنك أنت يا مسيحي، كنت لي آنذاك مُخلصاً قديراً،
 
تماماً كما أنك الآن مخلصي من كل عواصف الحياة.
 
لم تعد هناك أي قصاصة أمل، لا جزيرة، لا بر، لا قمة جبل، لا ضوء منارة، لا نجم مرشد للبحارة، لا شيء كبير أو صغير يمكن رؤيته.
 
ماذا أفعل؟ هل هناك أي وسيلة للخروج من هذه الأخطار؟
 
بعد فقدان أي أمل أرضي، أتجهت إليك، يا حياتي، ونفسي، ونوري، وقوتي، وخلاصي، يا مصدر الرهبة والضيق لكن أيضاً الشافي المملوء لطفاً، الذي ينسج الخير دائماً في أي حيّز مُعتم.
 
لقد ذكرتك بكل معجزات الماضي، عندما أختبرنا يدك العظيمة: ذكرتك بالبحر الذي إنشق لمرور إسرائيل، ذكرتك بهزيمة الأعداء بواسطة الأيدي المرفوعة في الصلاة، ذكرتك بضربات المصريين مع زعمائهم، ذكرتك بالمذلة إلى عبودية الخليقة، ذكرتك بالأسوار المنهارة عند صوت البوق وهجوم الشعب. وتم إضافة صلاتي لجميع الصلوات المشهورة من قديم الزمن.
 
فصليت وقلت:
 
كنت في السابق ملكك، ها أنا ملكك الآن.
 
من مفضلك، أقبلني مرة ثانية،
 
أقبل حيازة خدامك المكرمين (نونا وغريغوري)،
 
ها أنا عطية الأرض والبحر،
 
المكرس لك بصلوات أمي وبواسطة هذه الضيقة الفريدة.
 
إذا نجيتني من هذا الخطر المضاعف، سوف أعيش لك،
 
إذا تخليت عني، سوف تفقد عابداً،
 
في هذه اللحظة، تلميذك تتقاذفه الأمواج،
 
من أجلي، أطرد النوم، أستيقظ لي، وسكن الخوف.
 
هذه كانت كلماتي.
 
خف إصطدام الرياح، وصار البحر هادئاً. وأبحرت السفينة مباشرة على المسار المنشود – نتيجة صلاتي. وكل رفقة السفينة بأكملها واصلوا الرحلة وهم يمجدون المسيح العظيم، إذ أنهم تقبلوا خلاصاً مضاعفاً من يديَّ الله. عبرنا رودس ثم ضربنا شراعنا في ميناء جزيرة إيجينا Aegina، إذ أنها كانت مركب إيجينية.
 
بعد ذلك جاءت أثينا والأدب. أترك للأخرين سرد الأمور التي حدثت هناك، إلا أنني مشيت في خوف الله، مدركاً أن الأمور الأولى يجب أن تكون لها الأولوية. بالرغم من أن الطلاب في عُنفوان الشباب وعلى موجة المغامرة، عادة ما يجدوا أنفسهم منغمسين بطيش مع عصابة ما، إلا أنني حافظت على السلوك المعتدل. لم أنجذب من قبل الناس الذين سقطوا في طرق مؤذية، بل على العكس أنا نفسي كنت اقود الأصدقاء نحو الأمور الأفضل. هنا أيضاً أيّدني الله. لقد ربطني الرب بأكثر الناس حكمة، بشخص يسمو فوق جميع الأخرين في التعلم والحياة. أنك سوف تميز بكل سهولة ذلك الشخص الذي أعنيه.
 
بالطبع هو باسيليوس، زينة جيلنا العظيم. كان يرافقني في الدراسات، وفي السكن، وفي المناقشات. كونا فريقاً – إذا أمكنني الإفتخار قليلاً – ذاع صيته في كافة أنحاء اليونان. كانت عندنا كل الأشياء مشتركة، ونفس واحدة – إذا جاز التعبير – تربط معاً أجسادنا المتمايزة. لكن قبل كل شيء، بالطبع كان الله، ورغبة مشتركة نحو الأمور السامية، التي جذبتنا بعضنا لبعض. كنتيجة، وصلنا إلى مثل هذه الدرجة من الثقة، حتى كشفنا أعماق قلوبنا بعضنا لبعض، صائرين أكثر فأكثر متحدين في إشتياقاتنا، فليست هناك رابطة إتحاد أكثر صلابة من التي تفكر بنفس الأفكار.
 
Reference: Fathers of the Church Series, Volume 75, Gregory Nazianzus, Three Poems, CUA Press.