الــــعـــذراء المـــتـــوســــطـــة والـــوســـــيــطـــة

أيتها البرج المرصوف بالذهب، والمدينة ذات الاثني عشر سورا، والكرسي المنقّط بالشمس وسدة الملك، العجب الذي لا يدرك: كيف ترضعين السيد؟
في ميلادك حفظت البتولية وصنتها، وفي رقادك ما اهملت العالم وتركته يا والدة الاله لأنك انتقلت الى الحياة بما انك ام الحياة. فبشفاعتك انقذي من الموت نفوسنا.
في ميلادك حبل بغير زرع، وفي رقادك موت بغير فساد، ففي ذلك قد اقترن عجب بعجب مضاعفة… ان السلطات والكراسي، والرئاسات والارباب، والقوات والشاروبيم، والسارافيم يمجدون رقادك، ويبتهج الارضيون مزينين بمجدك الالهي، وتسجد الملوك مع رؤساء الملائكة والملائكة ويرنمون هاتفين: افرحي ايتها الممتلئة نعمة الرب معك، المانح العالم بواسطتك الرحمة العظمى.
(مختارات من الصلوات التي تتلى في طقس نياح السيدة العذراء)
ان مريم التي هي “والدة الاله” و”عذراء” بحسب ما توجه به الملاك البشير اليها قائلا: “مباركة انت في النساء… قد وجدت نعمة عند الله، وها انت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع… الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك ايضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله”. الا ان الجدل حول شخصها اخذ حيزا كبيرا من التفاسير والاجتهادات حتى بات بعضها بمنزلة عقيدة غير قابلة للنقد او البحث. ومن تلك العقائد ما تحول سببا حقيقيا للفرقة بين الكنائس كالحبل بلا دنس وبتولية العذراء، شفاعتها ورقادها ايضا. بالاضافة الى ذلك برزت حتى ضمن الكنيسة الواحدة مجموعات رهبانية ومدنية تتلاقى او ربما تتنافر بخصوصية النهج “المريمي” الذي لكل واحدة منها.
لا يضير ان نستعرض هنا ولو سريعا ما تقر به العقيدة الارثوذكسية بهذا الخصوص. فبولادتها كانت تحمل العذراء وزر الخطيئة الجدية كسائر البشر، الا ان مفاعيلها ابطلت بالمعمودية المبكرة التي حصلت عليها بحلولية الطفل الالهي في احشائها. وبالنظر الى عوامل الشبه والوراثة بالطبيعة البشرية، كما الى طهارة مريم وتسليمها ذاتها الكامل لله من خلال جوابها للملاك: “انا امة للرب، ليكن لي كقولك”، استحقت ان يتخذها الله معبرا له ومحولا لذاته بأقنوم الابن المتجسد عبر انصهار الطبيعة البشرية مع الالهية بحال لا تفسّر.
ان النعمة التي حصلت عليها مريم كانت تفعل فعلها في الكل وخاصة بمن استطاع ان يتحسّسها. هذا الامر لا يحصل الا لأنقياء القلوب كما كان حال الجنين الذي ارتكض في بطن اليصابات لما سمعت سلام مريم عليها، فصرخت امه بصوت عظيم بعد امتلائها من الروح القدس قائلة: “مباركة انت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك! فمن اين لي هذا ان تأتي ام ربي الي؟”. وللوقت اجابت مريم مبتهلة: “تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر الى اتضاع أمته. فهوذا منذ الآن جميع الاجيال تطوبني لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته الى جيل للذين يتقونه. صنع قوة بذراعيه. شتت المستكبرين بفكر قلوبهم. انزل الاعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين. اشبع الجياع خيرات وصرف الاغنياء فارغين…”.
اما البتولية والنقاء فصفتان لازمتا ام الاله قبل الولادة، واثناءها ومن بعدها الى حين ارتفاعها وعبورها في آخر المطاف كطفلة بين يدي ابنها وخالقها الذي كان قد الهب احشاءها بنوره المطهّر والمقدس. بذلك دخلت “العروس التي لا عريس لها” بحالة من العشق الذي لا يمكن لأية علاقة بشرية مهما تسامت ان تعقبه او تتجاوزه. وازاء هذا العجب الحاصل في عمق مريم ومن خلالها بصميم الطبيعة الانسانية لا بد للشك الناتج عن نظرية “اخوة يسوع” من ان يتبدد وخاصة بمشهدية الفداء على جبل الجلجلة حيث وقفت هناك امه عند الصليب، واخت امه مريم امرأة قلوبا، ومريم المجدلية. فاذ رأى يسوع امه آنذاك، والى جانبها التلميذ الحبيب اليه، فقال لأمه اولا: “ايتها المرأة، هذا ابنك”، ثم للتلميذ: “هذه امك” فأخذها الى بيته من تلك الساعة.
إن حضور مريم القوي في صميم حياة المؤمنين الشخصية والروحية لا مثيل له، إذ هي الشفيعة الدائمة وبامتياز للجنس البشري عامة ولكل المستغيثين بها بنوع خاص الذين يحجون زرافات ووحدانا الى الأديار التي تسمى باسمها. أوليست هي التي توجهت الى يسوع لما فرغت الخمر في عرس قانا الجليل منذرة اياه بأن: “ليس لهم خمر”، وقالت من ثم الى الخدام بإصرار المتيقن: “مهما قال لكم فافعلوه” مستتبعة بذلك ابنها “الالهي” الذي سبق وقال لها: “ما لي ولك يا امرأة! لم تأت ساعتي بعد”. لقد جلبت الخلاص للعالم وباتت الوسيطة الدائمة لكل المسكونة لدى الله، وبهذا الصدد يتميز التقليد الارثوذكسي بحرصه على رسم العذراء في كل المراحل منذ ولادتها حتى انتقالها غير منفصلة عن “الابن” الذي منه تستمد الدالة من اجل خطايانا الى الأزل.
أما بداية الآيات التي صنعها يسوع كانت تلك التي اقامها في قانا حيث أظهر مجده الذي سوف يكتمل لاحقاً متجلياً بالشهادة. وهذه الآية بالذات انما تمت بايمان وثقة كبيرين، وذلك بالايعاز الى الخدام من قِبَل الوالدة التي كانت عرفت خصوصية يسوع منذ طفوليته بالرغم مما كانت تدركه “في قلبها” لطبيعة الدرب التي سوف يسير عليها. لقد بدت وكأنها قد أعطت اشارة الانطلاق بالرغم من كبر الجرح الذي سوف يحدثه في قلبها ذلك الاستحقاق الذي بات زمانه في اقتراب مطرد.
بمريم قد تكشّفت كل الرسوم الظلية، ذلك انها وبعد ان اقامت طويلا بالصمت المقدس في الهيكل قد اطلقت من جوفها “الكلمة” الالهي الى المسكونة بأسرها مزيلاً بقوة نوره الغشاوة عن العيون ومفصحاً عن سر التدبير الالهي. لقد باتت رمزاً للكنيسة المزمعة ان تتأسس في العنصرة بالروح المسكوب على جماعة الرسل الذين توسّطتهم مشددة اياهم قبل انطلاق كل منهم الى شهادة متمايزة.
ان ما تقدم يحثنا جميعاً على التأمل عميقاً “بنَفَس مريمي” عن مقدار امانتنا وتفعيلنا لنعمة الروح القدس الممنوحة لنا بالمعمودية. فهلا ادرك واحدنا عندئذ كيف انه دعي ليكون هيكلا حقيقياً لهذا الروح، او فقه كل معاني تسليم الذات والشفاعة والبتولية والصمت المقدس؟ ان وسع المدى يتجلى في اختبار روحي صادق يسير بتراتبية مزدوجة الاتجاه او مبعثرة في كثير من الاحيان.
ما فعلته مريم لم يكن شيئاً عادياً، بل يحتم علينا ان نتوجه الى انفسنا متسائلين بقوة عما اذا كنا نسمح للروح بأن يفعل فعله في كنيسة المسيح اولاً وفي الارض على امتدادها تالياً:
أين هو عمله من خلال المجامع المقدسة (المفترض ان يكون هو المحرك الوحيد لها)؟ وهل يستعلن بتجرد بواسطة القيادات الروحية او الافراد الذين معاً يكوّنون جسداً واحداً، وتقع على عاتقهم مسؤولية الحفاظ عليه وصيانته؟ هلا من شيء يرتكض ازاء اي احساس بالروح او اشارة تلقاها منه، ام باتوا يتحركون على إيقاع الخطابات الاملائية المسيّسة التي لا تحوي الا على رشة خجولة للروح؟
الواقع أليم والصورة قاتمة ولكن الرجاء الهي، لا يمكن لبشريتنا المتقاعسة من ان تعدم فعله. يبقى ان نؤكد ان الروح بمعزل عن مدى اطلاقنا له سوف لن يهدأ، وأبواب الجحيم لن تقوى على كنيسته. فالله في كل مسيرته مع “الشعب المختار” لم ينكفىء بل انتظر حتى النهاية حتى استبانت له عذراء نقية طاهرة فأكمل سرّ تدبيره بها متخطياً كل عقم الرئاسات والسلاطين الذين باتوا مكبّلين بأمور هذا العالم.

سمير عبيد