حول الانفصال عن الله: مختارات من البوق الإنجيلي 

مكاريوس معلّم باتموس 

نقله إلى العربية الراهب أثناسيوس الدمشقي

       إنني قد طالعت كتاب أعمال الرسل فوجدت فيه كلاماً مسطراً عن بولس المطوّب. أنّه لما عزم على السفر من كورنثوس، سبّب للمؤمنين تأسفاً على فراقه وتحسراً عظيماً، وجلب عليهم غماً وألماً جسيماً.

حتى أنهم انطرحوا منكبّين على عنقه، وطفقوا يطلبون إليه ببكاء جزيل وعبرات غزيرة، ألاّ يدعهم خائبين من مشاهدته. فوعدهم بحضوره لعندهم. فبالنسبة إلى هذا الأمر اعتبر حالَك أيها الخاطئ التعيس المنكود حظه.

يا ليت شعري إذا كان فراق أحد الرسل قد أضرم في قلوب المؤمنين نيران الحزن والغم بهذا المقدار، فكيف تكون حالتك إذا انفصلتَ، ونأيتَ، ولا أعني بقولي عن انفصالك من أهلك وأقاربك، ولا عن افتراقك من خلانك وجيرانك، ولا عن مفارقتك للملاك الحافظ نفسك، ولا عن ابتعادك من بقية الطغمات الملائكية، ولا عن انفصالك من مرافقة جمهور الأنبياء،

ولا عن فقدك معاشرة محفل رؤساء الآباء الصديقين، ولا زمرة الرسل القديسين، ولا مواكب الشهداء والمعترفين، ولا عن ابتعادك من السماء نفسها، ولا عن افتراقك من الفردوس، ولا عن بقية سعادة الصديقين. بل إنما أقول لك عن انفصالك من الآب السماوي فقط.

 لأن بقية العذابات وسائر العقوبات كالنار الأبدية، والظلمة القصوى، وصريف الأسنان وغيرها من العذابات المختلفة الأنواع، إذا قسّمتها بالنسبة إلى انفصالك من الله تعالى فتجدها كَلا شيء

. فقل لي إذاً كيف تقدر أن تحتمل هذا الأمر، وهو أن تكون منفصلاً من هذه الأحضان الأبوية، أحضان خالقك وسيدك ومولاك؟ أيّ يأسٍ وقنوط يشملك؟ وأي بحرٍ من الحزن يغمرك؟

وأي نهرٍ ناري من الغمّ والكآبة ينسكب على نفسك الشقية، إذا ما انفصلت من هذا السيد الحليم الجزيل الوداعة ونزحت عن هذا الإله اللطيف العطوف جداً؟ ألا تعلم أن هذا الانفصال يوليك الفضيحة والخزي؟ صدقني أن هذا أمضٌ من نيران العذاب. هذا مقدمة مصيبتك وخاتمتها.

وإن شئتَ أن تتحقق ذلك وتتأكده، فافتكرْ بما جرى في العصر القديم، عندما قطع هيرودس المنافق رأس يوحنا السابق. وكان ربنا له المجد على الأرض بالجسد. فأيّ تأديب وقصاص جلب على أولئك القوم الذين تجاسروا على هذا الصنيع عندما بلغه خبر صنيعهم.

إن الإنجيلي المتأله اللبّ لم يقل في هذا الصدد شيئاً سوى “أن يسوع لما سمع ذلك تحوّل ماضياً من هناك إلى مكان قفر“. لأنه لم يجد تأديباً يؤدّبهم به وقصاصاً ينزلُه بهم أعظم من هذا التأديب والقصاص العظيم جداً، وهو انفصالُه منهم وانصرافه عنهم.

ولعمري أنّ هذا الأمر نفسه تفهمُك إياه الظلمة التي صارت على الأرض كلّها في حين صلب الربّ. لأنه من حيث أن ذلك التجاسر كان مستغرباً لا قياس له، وما من شيء من الأعمال الأثيمة يشابهه أصلاً، فلذلك حلّ بهم التأديب والقصاص العظيم الذي ما من شيء يوازيه ليوضح لهم أنّ انفصاله منهم سيكون لهم عذاباً شديداً وانتقاماً مريعاً أشدّ من كلّ عذابٍ وانتقام.

وهاك قياساً صحيحاً سأورده لك كفيلاً بأن يفهمك. وهو: أنّ الله تعالى هو العلة الأولى لكلّ خير. والذي يكون منفصلاً من ينبوع النور والضياء أي نورٍ يبقى له؟

والذي يكون منفصلاً من أبي كلّ سلوةٍ وعزاء، أي أثرٍ من الفرح والسرور يبقى له؟ فالناتج إذاً أنّ الإنسان الذي ينفصل من الله تعالى، جلّت آلاؤه، يبقى على هذه الصورة مظلماً مقتماً وخالياً من كلّ خيرٍ وصلاح.

كتب أوريجانس في مؤلّفاته أنّه حينما كان مغلقاً على نوح البار داخل السفينة، كانت الأرض عقيمةً وغير مولِّدة، ولم يونع فيها نباتٌ أصلاً، ولا ظهر على وجه الأرض زهرٌ ولا ثمرُ أبداً، لأن الشمس لم تكن تطلع على الأرض في ذلك الحين.

 فإذا كان فقدان هذه الشمس الحسّية صار سبباً لتلاف الأرض وبوارها، وعلةً لعظم الجدب والمُحْل الذي أصابها، فماذا نستنتج عن الإنسان الشقي المسكين، إذا بقي منفصلاً من الله الجواد العظيم العطايا خالقِه وجابله؟ أيّ تعاسةٍ تشمله؟ وأيّة مصيبة تدهمه؟ وفي أية حالة شقية يكون؟

كان المعلمون الجهابذة يتباحثون في أمر شمشون بعداوة عظيمة حتى الموت، فلما قبضوا عليه لِمَ لم يحلقوا شعر رأسه ثانية، ما دامت قوته الأولى تعود إليه أيضاً إذا نبت شعره؟

لم يفعلوا ذلك بسبب إهمالهم وكسلهم أم بسبب جهلهم وعدم معرفتهم؟ ويجيبون قائلين في حل هذا المشكل هكذا: إن الفلسطنيين لم يعبئوا بذلك لعلمهم أنّ الرب قد ابتعد عنه،

ولم يخشوا بأسهُ أيضاً لأن انفصال الله تعالى عن شمشون منحهم ثقةً وعشماً حتى شدوا ذلك البطل الصنديد الذائع الصيت وربطوه إلى حجر الرحى كحيوانٍ فاقد النطق.ولعمري أن هذه الداهية نفسها بل أعظم منها بما لا يقاس تدهمك أنت أيضاً أيها الخاطي غير التائب بعد انفصالك عن الله.

ولا يبقى لك فيما بعد أثرٌ من السلوة والتعزية أصلاً، ولا خيال من الفرح والسرور أبداً، لا من تلك التسلية التي يمنحها ضوء الشمس والقمر للكواكب، ولا من ذلك الانتعاش الذي يُستمد من لطف النسيم.

لكنك تُسلَب كل سلوة وعزاء حتى أن العناصر التي بها يتعزّى بقية الناس ويتسلّون تصير أعداءً لك، وجماهير القديسين أنفسهم يعادونك، والسيدة البتول الطاهرة تبتعد عنك، والسماء بجملتها ترفضك.

وإنما يصير هؤلاء جميعهم أعداء لك لأنك جعلت وسائلهم وشفاعاتهم التي كانوا يقدمونها من أجلك فيما سلف باطلةً لا تجدي نفعاً. وما لي أقول أن الأقرباء والقديسين يكونون أعداء لك ومبغضين ولا أقول أن آدم ابن الله الطاهر نفسه، والصليب الكريم الحامل الظفر بعينه، يكونان لك عدوين ومبغضين ومقاتلَين لنفسك الشقية المستوجبة النوح والبكاء.

إنني أعرف أين تعلّقٌ أمَلَك أيها الخاطئ غير التائب. أفلستَ واثقاً أيضاً بلجة تحنن الله تعالى؟ والحال أنك من أجل هذا يجب أن تخشى وترتعد أكثر، لأنك ستكابد حرَّ نار العذاب الأبدي بأوفر المضض والألم من جراء عظم خيانتك، وقلّة شكرك، وعدم وفائك الذي أظهرتَه نحو السيد الكريم المفضال العظيم المواهب.

وذلك على نحو وفور غنى المواهب والنعم التي نلتها من لجة تحننه تعالى. وعلى نحو ما أظهر من الهمة الوافرة والنشاط الكامل في إصلاحك وتقويمك سوف يوبّخك ويبّكتك بأشد القساوة لأنك أضحيت خائناً منافقاً، وعديم الخضوع والإذعان وفاقد التصوّر والإدراك.

فقل إذاً بماذا تؤمل مطمئناً. أتؤمل بحكمة قاضيك وحاكمك؟ والحال أنه من أجل هذا أيضاً يجب أن ترهب وترتعب بالأكثر. لأن الحق ذاته سوف يكون دياناً لأعمالك وشاهداً عليها.

كما يقول إرميا النبي “إنني أنا شاهد وقاضٍ“. فبماذا إذاً تثق متعشماً؟ أأنت واثق بقدرته الكلية؟ والحال أنه من أجل هذا يجب أن ترتعد وتفرق أكثر لأنك عندما تكون واقفاً في تلك الدينونة لا يمكنك أن تقاوم، ولا تجد مكاناً تختفي فيه لتهرب من أمام قوته الكلية القادرة على كلّ شيء.

فبماذا تتعشّم طامعاً؟ أتتعشّم بعدله الإلهي؟ والحال أنه من أجل هذا ينبغي لك أن تخاف وتهلع أكثر. لأن الله تعالى لا يدع خطيئةً من خطاياك بلا قصاص وعقاب.

 وأعظم من ذلك أيضاً أنه عزّ اسمه قد بذل ابنه الوحيد المساوي له في الجوهر وأسلمه إلى الجلد والسياط والآلام والصلب. وذلك كلّه لأنه كان لابساً صورة خطيئتك لا غير.

فعليك إذاً أن تحكم حكماً عادلاً في هذا اليوم الذي هو يوم المحاكمة. واعطِ الله تعالى حقّه الواجب عليك. وأفرز له نفسَك وجسمَك وحواسَك كلها بما أنّك خِلقته وجبلة يديه.

واعرف ضعفك وعجزك وافهم دناءتك وخسّتك، وكُف من الآن فصاعداً عن معاندة هذا السيد الكلي القدرة، ومقاومة هذا القاضي الديان الكلي الحكمة. ميّز تمييزاً حميداً واحكم على ذاتك. أنه من الواجب واللائق أن تكشف خفايا قلبك ومكنوناته لدى أحد الأطباء قبل أن يدركك ذلك اليوم الرهيب وتشهر خفاياك ومكتوماتك تجاه أعين السماء والأرض، قدام الملائكة والبشر.

ميّز بعقلك أنه واجب عليك أن تحرق خطاياك ومآثمك بانسحاق القلب لكي لا تقع في تلك النار الجهنمية وتحترق احتراقاً مؤبداً فذلك ربح عظيم وكسبٌ جسيم لك.

قد قال علماء الطبيعيات وعلى الخصوص بلوتارخس الحكيم، أن الصاعقة حيثما وقعت سحقت الأشياء الصلبة القاسية وطحنتها. وأما الأشياء الليّنة الرخوة فلا تضرّها ولا تؤذيها.

والحال أنّ هذا الأمر بعينه يكون في الدينونة الرهيبة التي يقضي بها هذا القاضي العادل فإنه يدقّ الخطأة القساة غير التائبين ويطحنهم ويطرحهم في النار المؤبدة. وأما المتواضعون والتائبون فيرّق لهم ويرحمهم.

فإذاً حتّام أيها النفس الشقية غير التائبة تلبثين مصرةً على فظاظتك وقساوتك وعلى عدم الخضوع لشرائع إلهك وخالقك، وعلى عصيان نواميسه الإلهية وأوامره الخلاصية؟

إلامَ تحتملين أن تعرفي ذاتكِ أنكِ من الذين سيسمعونه تعالى قائلاً لهم بصوت مهول وغضب شديد “اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة” ولا تتوبين نادمة على خطاياك؟

نعم إنه من الواجب علينا ألاّ نضيّع وقت هذه التجارة الحميدة. لأنّ هذا القاضي المقسط هو الذي وهبنا هذه الحياة إجلالاً لهذا الربح وهذه الفائدة الجميلة. أي لكي نجعل ذواتنا أهلاً لحزب اليمين وننجو من حزب الشمال.

وقد أبقانا أحياء إلى هذه الأيام وأوصلنا إلى هذا التذكار تذكار دينونته الرهيبة. لكي نتصالح متسالمين مع القاضي الديّان ونطرح عنا أعمال الشجب والهلاك ونلبس أعمال البرّ والعدل.

لأنه من يعرف إن كنا نسمع أيضاً فصل إنجيل هذا اليوم الرهيب متلواً في مثل هذا اليوم من العام المقبل؟ ومن يقدر أن يعرف مَن منا يكون فوق الأرض ومن يكون تحت الأرض؟

فالجدير بنا إذاً أن نخمد غضب الديان العادل ونطفئه بزيت الرحمة والصدقة، أو بهطل جداول الدموع والعبرات الحارة. يا ليت شعري إلى أية ساعةٍ نخبئ دموعنا ونتحفّظ عليها؟

من لنا أعزّ وأكرم من ذواتنا لنبكي عليه؟ ما لي أراك يا هذا تذرف سواقي من الدموع في موت أبيك، أو أمك، أو ابنتك، وأما في موت نفسك فلا تبكي عليها ولا تندبها؟ أنه من الواجب أن نبكي على نفوسنا في هذا اليوم بكاءً وقتياً.

لكي ننجو من تلك الدموع المؤبدة التي لا تجدينا نفعاً. والخليق بنا أن نتنهد الآن تنهداً زمنياً لكي نسلم ناجين من تلك التنهدات الأبدية التي نسأله تعالى أن ينجينا منها برحمته التي لا تقدّر ولا تحدّ.

له المجد والعزة والسجود إلى أبد الدهور التي لا تحول ولا تزول آمين.