!الأسقفيّة وحبّ السّلطة

بقلم الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما

14 آب 2011

الأسقفيّة وحبّ السّلطة!
لا يتناول الكلام، في هذه المقالة، أحدًا، بصورة شخصيّة. كلامنا هو على حال مرضيّة متفشّية، في أوساطنا، يعانيها الأكثرون!
حبّ السّلطة هوى ولا أقرب إلى قلب الإنسان. السّبب أنّه الأدنى إلى ما وعدته به الحيّة – إبليس، زورًا، في سِفر التّكوين (تك 3: 5)، أنّه، أي الإنسان، إذا ما سفّه كلمة الله ورفض وصيّته تنفتح عيناه ويصير مثل الله عارفًا الخير والشّر. لذا، عمليًّا، كلّ هوى آخر، غير حبّ السّلطة، يتولّد منه ويؤدّي إليه!
إذا ما كان قد قيل “حبّ المال أصل لكلّ الشّرور”، فحبّ السّلطة وراء حبّ المال، ومن ثمّ، هو الّذي يعطي كلّ الشّرور هدفًا ووجهة سَير محدَّدة في دروب الخطيئة.
عكس حبّ السّلطة هو الطّاعة لله في شخص مَن نتوسَّم فيه إرادة الله لنا، في فعلِ تخلٍّ كامل عن مشيئتنا الذّاتيّة. لا قداسة الآخر، بالضّرورة، هي ما تطالعنا بإرادة الله، يقينيًّا، في شخص الآخر، بل تخلّينا الكامل عن مشيئتنا الذّاتيّة، باسم الله، بإزاء الآخر.
كلّ إنسان لا يطيع الله، بالطّريقة المبيّنة أعلاه، لا يمكنه، ولا بحال، إلاّ أن يكون محكومًا بحبّ السّلطة، جهارًا أو على نحو مقنّع. في مقابل ذلك، كلّ إنسان يطيع الله، ولا أسهل عليه من أن يطيع الآخرين. طاعة الله، وطاعة الله وحدها، الطّاعة في العمق، في الرّوح والحقّ، هي وراء الحثّ على الطّاعة للمرشدين أو المدبّرين (عب 13: 17)، في الكلام الإلهيّ، وكذلك على الخضوع بعضنا للبعض الآخر (أف 5: 21). هذا ليس خضوعًا قصريًّا، ومن ثمّ هو غير مُهين، بل خضوع طوعيّ لله، بالحبّ، في الآخرين؛ إذًا مبارَك! هنا يكمن منتهى قوّة النّفس في الإنسان لا منتهى الضّعف والذّلّ، كما يتراءى للّذين لا يعلمون!
ضمن هذا المنظور تندرج العلاقات بين الرّجل والمرأة والأولاد في البيت الواحد، أو بين العامل وصاحب العمل، أو بين الموظّف والمدير، أو بين النّاس، كلّ النّاس، في العالم، بغضّ النّظر عن الوضعيّات والمواقع الّتي هم فيها.
وكما في العالم كذلك في الكنيسة. في الكنيسة، كلّ المؤمنين، بلا استثناء، عرضة لهذا الصّراع الكيانيّ بين حبّ السّلطة وطاعة الله. في الأسقفيّة، يبدو هذا الأمر أوضح باعتبار موقعها في حياة الكنيسة. شهوة الأسقفيّة، ما دلالاتها، في إطار هذا المنظور؟
إذا ما كان قد قيل: “إن ابتغى أحد الأسقفيّة فإنّه يشتهي عملاً صالحًا” (1 تيم 3: 1)، فأساس هذه الشّهوة، كتابيًّا وتاريخيًّا، هو الطّاعة لله، وإطارها هو حفظ الوصيّة. فإذا لم يكن حفظ الوصيّة هو الإطار، وطاعة الله هي الأساس، في شهوة المؤمن هذه، فإنّ ابتغاءه الأسقفيّة ليس مبارَكًا ولا يُعَدُّ عملاً صالحًا بحال بل عملُ تظاهُرٍ وتمثيل واقتحام سافر! الأسقفيّة، والحال هذه، يطلبها المرء لذاتها، بدافع حبّ السّلطة، ولا يطلبها لخدمة الله. ليست الأسقفيّة، في العمق، لا في الألقاب ولا في السّيامة ولا في الأثواب ولا حتّى في الوظيفة الإداريّة والسّياق الاجتماعيّ. الأسقفيّة، في أساسها، هي في خدمة الرّبّ يسوع وكنيسته من كلّ القلب ومن كلّ النّفس ومن كلّ القدرة! هذا، بالذّات، هو ما حدا بالكنيسة، جيلاً بعد جيل، إلى الحرص، والحرص الشّديد، في اختيار الأساقفة، لكي لا تختار الكنيسة، لخراف المسيح، سهوًا، ذئبًا بدل راع، ومستغِلاً بدل خادم، وفاسدًا، مفسِدًا بدل تقيّ معلِّم، ومن ثمّ عميلاً لإبليس بدل شاهدٍ لمسيح الرّبّ. لذا أتبع الرّسول بولس كلامه أعلاه لتيموثاوس الرّسول، عن شهوة الأسقفيّة، بالكلام على صفات، أو بالأحرى، شروط الأسقف الموافق. “بلا لوم. بعل امرأة واحدة. صاحيًا. عاقلاً. حليمًا. غير مخاصِم. غير محبّ للمال. يدبِّر بيته حسنًا. له أولاد في الخضوع بكلّ وقار. غير حديث الإيمان. وذو شهادة حسنة من الّذين هم من خارج” (3: 2 – 7). هذه المزايا ما كانت لتُعدَّد لو لم يكن القصد منها إمعان النّظر في خصال المرشّح للأسقفيّة تأكّدًا من توفّرها في شخصه. معرفة الممكن اختياره أسقفًا عن كثب، لا سيّما في الرّوح، شرط لا يستقيم اختيار الأسقف من دونه. غير مقبول، إذًا، التّهاون في فحص المرشّح للأسقفيّة فحصًا جدّيًّا، والاكتفاء، بشأنه، بالعموميّات والانطباعات العابرة والشّهادة السّطحيّة لفلان أو لفلان عنه، قبل إدراجه في لائحة الموافقين للانتخاب! هذا حتّى لا نتكلّم على تأثيرات تتعاطاها مراكز القوى، من داخل مجمع الأساقفة أو من خارجه، في مداولات مسبَقة، ليست، دائمًا، كنسيّة الطّابع ولا نقيّة المرمى! مرّة علَّق أحد أصحاب الأبرشيّات أمامي على اختيار الأساقفة لأسقف جديد بالقول: دائمًا ما نأتي إلى جلسات المجمع المقدّس كالتّلامذة الّذين ليسوا حافظين درسهم كما يليق! قرارات تُتَّخَذ اعتباطًا وبتسرّع، وانتخابات تجري ولا يعرف البعض مَن ينتخبون ولا لأيّ نوع من البشر يقترعون!
كذلك غير مقبول أنّ الأسقف لا يجيب، في أموره الخاصّة، إلاّ لدى الله، من دون كنيسة المسيح، مجمعًا وشعبًا. مَن يراجع الشّرع الكنسيّ يلحظ أنّ الكنيسة تتابع وتهتمّ بتفاصيل دقيقة في حياة الأسقف، ليبقى الأسقف بلا لوم عن حقّ، كما علّم الرّسول، ولكي لا يكونَ سببَ عثرة للمؤمنين. مثال ذلك، في القانون 25 من قوانين الرّسل القدّيسين “أنّ أيّ أسقف يُكتشَف في زنى أو قَسَم كاذب أو سرقة فليُعزَل من وظيفته”. وفي القانون 70 من مجمع قرطاجة “أنّ الأساقفة والقسوس والشّمامسة يجب ألاّ يقربوا نساءهم في حدود نوباتهم، وإذا ما أبوا وخالفوا فليُنزَّلوا عن الرّتبة الكنسيّة”. وهناك قوانين تطال الأساقفة إذا ما شربوا المسكر أو تعاطوا الرّبا أو ضربوا أحدًا أو تعاطوا العمل الدّنيويّ. حتّى إذا كان الأسقف، أو القسّ، أو الشّمّاس مُدمنًا لعب النّرد فليكفّ عن ذلك أو فليَسقط (قانون 12. المجمع السّابع…). كذلك إذا ما صلّى مع المبتدعين يُقطَع (قانون 45. قوانين الرّسل)، وقِسْ على ذلك!
إذًا، لا غنًى عن التّأكّد من الهويّة الرّوحيّة للمرشَّحين للأسقفيّة، قبل أيّ شيء آخر، ومن ثمّ متابعة ملاحظة الأسقف ومطالبته، بعد صيرورته أسقفًا، لكي يبقى بلا لوم تحت طائلة القطع، وإلاّ تعاطينا الأمر بروحيّة تعاطي أهل العالم المنحطّ، في البلدان المتخلِّفة، وتعاملهم مع العمّال في الإدارات العامّة أو الخاصّة. وما يمكن أن ينجم عن ذلك، في الكنيسة، خطير، سواء على صعيد سلامة الرّعيّة، أم على صعيد سلامة الإيمان القويم، أم على صعيد سلامة الممارسة القانونيّة. التّهاون في اختيار الأسقف بحرص شديد، وكذلك في ملاحظة أدائه بعد اختياره، كلاهما مرفوضان، ويجب أن يُحتَجّ بشأنهما بشدّة لأنّ غضّ النّظر عن الفساد، دونما محاسبة، تفريط، ما بعده تفريط، بكنيسة المسيح! وعواقبه وخيمة، لا على حاضر الكنيسة وحسب بل حتّى على مستقبلها وعلى استمرارها بالذّات!
إلى ذلك ثمّة نقطة وجع شديد، في الكنيسة، تتمثَّل في موضوع عزوبيّة الأساقفة. خلال الأربعين سنة الفائتة لاحظتُ، لا بل لمست لمْسَ اليد أنّ القولة للرّسول تيموثاوس في شأن كون الأسقف زوج امرأة واحدة أبعد مدى من الظّنّ أنّ هذه كانت ممارسة قديمة وأنّه جرى استبدالها بالأسقفيّة العازبة، مع الزّمن. قناعتي أنّ هذا غير دقيق في المدى الزّمني. زواج الأساقفة وكذا عزوبيّة الأساقفة كانا، إلاّ في حالات استثنائيّة، في أطر التّقوى والإيمان والعبادة القويمَين. لذا طاعة الله والغيرة على بيت الله كانا السّياق. وكان لعزوبيّة الأساقفة مضمون إنجيليّ رهبانيّ روحيّ. العزوبيّة، في ذاتها، لم تكن، يومًا، القيمة. لذا الأسقف غير المتزوِّج كان يُنظَر إليه باعتباره متفرِّغًا للمعرفة الإلهيّة والعبادة والصّوم والصّلاة، وكذلك لخدمة التّعليم والرّعاية في حظيرة المسيح. الواحدة لم تكن من دون الأخرى. الاكتفاء بشروط العزوبيّة وحُسْنِ إتمامِ الطّقوس وقليل صوم وصلاة شخصيّة، بالأحرى شكليّة، مقرونًا بشهادة من إحدى الجامعات، هنا وثمّة، مِسخٌ للأسقفيّة غير المتزوِّجة! هذه، في خلفيّة اليوم، أسقفيّة دهريّة، لا تمتّ بصلة، ولا بحال، إلى الأسقفيّة الأصيلة! أمام الأسقف العازب، بصورة أساسيّة، طريق من اثنين: إمّا أن يكون في سعي حثيث للتّملّؤ من مخافة الله وطاعته، ومن ثمّ روحه، وهو يقوم بخدمة الرّعيّة الموكلة إليه في هكذا إطار شخصيّ؛ وإمّا أن يكون إنسانًا مدفوعًا بحبّ السّلطة في ما يفكّر وفي ما يعمل، في الموقع الّذي هو فيه؛ ومن ثمّ تكون الرّعيّة، بالأحرى، مِضغَةً لأهواء نفسه ومزرعة له! مَن لا يوجِّه طاقاته الحيويّة إلى فوق، فلا بدّ له من أن يحيا في مستوى شهوات نفسه وجسده. قد يتمثّل هذا في علاقات غير مشروعة بنساء، في الخفاء، أو في علاقات شاذّة، أو في شغف بجمع المال وسهولة الإنزلاق إلى تجارة الطّلاق والأسرار وتقديم الأغنياء. أو قد يكون العازبُ معتَوَرًا بشعور الرّفعة والعظمة أو منحرف الشّخصيّة، بشكل أو بآخر، مصابًا بمرض نفسيّ! مستحيل على الأسقف العازب أن يسلك في عفّة القلب وأن يكون سويًّا، روحيًّا، إلاّ في إطار الحياة الرّهبانيّة أو شبه الرّهبانيّة في الكنيسة. لعمري، إنّ الأسقفيّة العازبة، كما تُتعاطى، اليوم، تُعِدّ، أكثر ما تُعِدّ، أشخاصًا “مهووسين” بحبّ السّلطة ومظاهر العظمة والأثواب الفاخرة والتّيجان والمقامات الأولى في الكنيسة وأن يُقال لهم: “سيّدي، سيّدي!” الممارسة الفاسدة تشجِّع على الفساد! طبعًا الاستثناءات واردة، لكنّها قلّة عزيزة! صُدمتُ لمّا عرفت، مرارًا، أشخاصًا يعدّون أثوابهم للأسقفيّة والكهنوت سلفًا، وأحيانًا بأغلى الأثمان، ورأيتهم يتمرّسون، في الوقفة في الكنيسة ونبرة الصّوت والكلام والتّعامل مع النّاس، على الأسقفيّة الّتي كانوا يظنّونها آتية لا محالة، كالممثّلين على المرسح! لا بل ثمّة مَن يظنّ أنّه وُلد ليكون أسقفًا (!) وأعرف أسقفًا صُيِّر أسقفًا بمثابة جائزة ترضية لتعبيره، لدى أصحاب الشّان، عن شعوره بالغبن أنّ كل رفاقه صاروا أساقفة إلاّ هو، وكأنّ الكنيسة ظلمته! كذلك، لا شكّ عندي، أنّ مَن يستسلم لهوى الرّئاسة، ولو تمتّع بخصال حميدة، في الظّاهر، فإنّ هوى الرّئاسة يفسد فيه كلّ صلاح، ويجعل خصالَه المظنون أنّها حميدة مادّةَ تعميةٍ وتمثيل! فإذا ما كانت هذه هي الحال الّتي آلت إليها الأسقفيّة العازبة، إلى حدّ بعيد، فإنّي لا أتردّد في القول إنّ مَن اشتهى الأسقفيّة، في المناخ الحاضر لكنيستنا، أو طالب بها أو سعى إليها، فإنّ شهوته مريبة وينبغي استبعاده تمامًا عن الأسقفيّة. ثمّ ما دام هذا مناخ الأسقفيّة الرّاهن فخير لنا، ألف مرّة، أن نختار أساقفة بلا لوم من المتزوِّجين الأتقياء الثّابتين على الإيمان القويم، الضّابطين بيوتهم، القادرين على رعاية المؤمنين، من أن نختار أساقفة عازبين عقماء ذوي خفّة في تعاطيهم الإلهيّات والرّوحيّات، ولهم، في السّرّ أحيانًا، وفي العلن، بوقاحة، أحيانًا أخرى، سيرة تُعْثِرُ المؤمنين وتنفّرهم وتحبطهم وتلوكها الألسنة، مسبِّبة التّجديفَ على كنيسة الله!
لا شكّ أنّنا، بإزاء هذا الواقع المأسويّ، نعاني، اليوم، حالاً، لا شاذّة وحسب، بل مَرَضيّة وبائيّة تتفاقم، لأنّنا نرى أنّ ثمّة انعدامَ حسّ وتطبيعًا يجريان لفكرٍ وممارسة فاسدَين في هذا الشّأن! أننصرف عن الجماعة ولسان حالنا أنّه لا رجاء في استقامتها؟! حاشا! بل نشهد للكنيسة الحقّ أبدًا ونعمل للحقّ ونجاهد للحقّ حتّى قيامة الحقّ! الكنيسة باقية كنيسة مَن يسلكون في الحقّ لا مَن يخنقون الحقّ بالباطل، مهما استطال حبْل التّفلّت والانحراف في الجماعة!
الكلمة باقية حتّى يفتح الرّبّ الإله الآذان الصّمّاء!

Top of Form

Added 2 hours ago · Like ·

Bottom of Form