عبور
كل نفس مدعوّة أن تكون مريم

لا يذكر أي من الاناجيل الاربعة حادثة رقاد السيدة مريم أو أي حدث من أحداث حياتها، من الولادة الى الوفاة، سوى واقعة بشارتها من الملاك جبرائيل بولادتها المخلص المنتظر مجيئه. فمهمة الاناجيل ليست الحديث عن مريم او عن سواها من الشخصيات التي عاصرت السيد المسيح ورافقته على دروب حياته، بل تقتصر هذه المهمة على نشر تعاليم يسوع وأبرز الاحداث التي جرت معه. أما كل ما يرد ذكره عن أحداث ساهمت فيها شخصيات أخرى كالبشارة واعتماد يسوع من يوحنا في الاردن، فالاناجيل تبرز المسيح وحده محوراً للحدث، فيما تؤدي تلك الشخصيات دورا ثانويا.
تستفيض النصوص العبادية في استجلاء معاني عيد رقاد السيدة مريم، فالمسيح الذي اتخذ منها جسدا وصار لها ابنا، هو صانها من فساد القبر ونقلها الى ملكوته السماوي. وهذا الاعتقاد يجد له جذورا في التراث الكنسي اللاهوتي، فابن الله صار ابن مريم، وكما قام المسيح جسديا من بين الاموات، ولم يدع الموت يمسكه، ولم يتركه يرى الفساد (أعمال الرسل 2، 24 و27) كذلك أقام المسيح جسد أمه بعد وفاتها، ذلك الهيكل الذي قدسه الروح القدس وسكن فيه ابن الله تسعة أشهر، وقد اتخذ منه جسده، ولم يتركه يرى الفساد والانحلال كسائر أجساد البشر.
في الحقيقة تكتسب مريم عظمتها من أمرين متكاملين لا يجوز فصل أحدهما عن الآخر: قبولها الحمل بيسوع وانجابه، وخضوعها لكلمة الله ومشيئته. فالمقطع الانجيلي الذي تتلوه الكنيسة الارثوذكسية في أعياد مريم كافة يخبرنا ان امرأة بعد أن رأت احدى معجزات السيد المسيح صرخت مادحة إياه: “طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما”. فأتت ردة فعل يسوع قاطعة: “بل طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها” (لوقا 10، 38 – 42). فالمرأة أرادت، كما هي الحال عند العامة، امتداح ما هو طبيعي وناتج عن الطبيعة، أي التوالد والتناسل والتكاثر، وهذه كلها ليست بفضائل أو قيم، انما هي محكومة بعوامل علمية بيولوجية او سواها. فصوّب يسوع المسألة نحو وجهة اخرى وأكسبها ما يعلي من شأن الانسان وخياراته الحرة، اذ قال إن الطوبى لا ينالها الانسان بسبب عامل طبيعي بل ينالها من يطلبها مخضعاً نفسه وارادته لمشيئة الله، وعاملا بحسب كلمته.
هكذا مريم التي ولدت أعظم الكائنات، اكتسبت عظمتها من خضوعها لكلمة الله وحفظها لها. فان عدنا الى فاتحة إنجيل لوقا وقرأنا الحوارين اللذين حصلا بين ملاك البشارة ومريم، وبين مريم وأليصابات، لوجدنا أن مريم لم تكن لتصير والدة يسوع بالجسد لو لم ترض ان تخضع ارادتها لمشيئة الله، وهذا جلي في قولها لملاك البشارة: “ها أنا أمَة الرب، فليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1، 38). عظمة مريم تكمن في أنها تواضعت وقبلت أمر الله، وكان باستطاعتها ان ترفضه، فالله يحترم حرية الانسان ولا يفرض عليه أي أمر لا يختاره بملء ارادته، لذلك رفعها الله الى أن تصير والدة ابنه الوحيد بالجسد. وإن شئنا التسلسل الحقيقي للأحداث، فيمكننا القول إن قبول مريم الخضوع لمشيئة الله يسبق زمنيا صيرورتها والدة ابنه الوحيد، لا العكس.
الطوبى لمريم طوبى لها قول فصل فيها، لا طوبى مكتسبة فطريا. مريم كلمة الله، تستجيب لها، لا ترفضها، لا تتردد في اتخاذ القرار، قرارها ان تقول “نعم” بلا تحفظ عندما يدعوها ربها. ومريم هي مثال الانسان المستسلم لمشيئة الله، وهي الصورة النموذجية التي ينبغي لكل مؤمن بالله ان يكون عليها. فالمؤمن مدعو كمريم الى أن “يسمع كلمة الله”، أي أن ينفذها في يومياته، وأن “يحفظها”، أي أن ينقلها الى االجيل الذي يليه. وهو مدعو كمريم الى ان يقول في كل حين: “أنا أمَة (أو أنا عبد) لله، مقتديا بها في تواضعها الجمّ. كل نفس مدعوة الى أن تكون مريم أخرى.

الأب جورج مسّوح

http://annahar.com/content.php?priority=1&table=adian&type=adian&day=Mon